الحِكم الربانية في خروج آدم من الجنة
قال ابن حجر: وفيه تعريض من آدم لموسى كأنه يقول: يا موسى ما حصلت لك هذه الكرامات إلا بعد أن نزلت أنا من الجنة، وإلا لو كنا بقينا في الجنة ما كان لك هذه الكرامات، والمراتب العالية، هل لو بقي آدم في الجنة كان هناك فرعون، ولما أرسل الله موسى إليه، ولما ضرب البحر بعصاه، ولا كان معه الحية والثعبان.
فكأنه يقول: اتق الله عز وجل، واحمد الله على هذا الفضل، فبسبب نزولي من الجنة إلى الدنيا حصلت لك هذه المقامات العلية وإلا لو بقيت أنا في الجنة كنت أنت بقيت من سائر الناس، ولما كان هناك ابتلاء، ولذلك فلله الحكم البالغة، كيف أنزل آدم؟ لكن الظاهر أن نزول آدم من الجنة كان مصيبة، وإننا نسترجع منها، ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلما ذكرناها قلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لأنها مصيبة وسبب كونها مصيبة لأمور:
أولاً: لو كنا في الجنة ما كان علينا تكاليف، لا صيام ولا صلاة ولا حج ولا عمرة ولا زكاة، وكنا مرتاحين.
الأمر الثاني: ما كان علينا مصائب وآلام وأحزان، فهذا مشلول وهذا مبتلى بالعمى، وهذا بالصمم، والمستشفيات مليئة، وحوادث السيارات، والأزمات، وغلاء الأسعار، وتخريب البيوت، والدمار والبراكين والحروب، وضرب الطائرات والصواريخ، كل هذه المصائب ما كانت توجد، وكنا في أمن وسكينة في الجنة.
والأمر الثالث: لو كنا في الجنة، ما كان انقطع نعيمنا أبداً، لكن هناك نعيم أراده الله عز وجل لنا:
أولاها: أن الله عز وجل لما أنزل هذا الخلق منهم الأنبياء والرسل ومنهم الشهداء والصالحون، ومنهم الأخيار والذاكرون، ومنهم الصوام والقوام، ومنهم العباد والدعاة، ومنهم المجاهدون والمستبسلون، فهذا فضل من الله عز وجل.
ثم الفضل الآخر أن الله عز وجل جعل منازل الجنة بهذه المنازل، ثم الأمر الآخر: أن الله امتحننا بالعبودية فصدقنا، فإنك إذا أتيت تعطي ابنك الجائزة بعد أن بذل وجد في الامتحان؛ كان في نفسك اطمئنان أنك أعطيته بحق، وهو يفرح لأنه أدى وعمل، وأما الطفل الصغير الذي لا يعرف ألف ولا باء ولا تاء ولا جيم ولا ثاء، فتأتي تعطيه الجائزة هو سيأخذها وهو يدري أنه ليس هناك جدارة، وأنت في نفسك لست فرحاناً بهذه الجائزة التي أعطيته، وذلك لأنه يكسر نوافذ الناس بالحجارة، أو يؤذي الناس بصوته، لكن مادام قد أعطيته هذا الفضل فقد استحق الفضل هذا، فهو من أرباب الفضل.
فالأدب في الحوار كان وارداً، وكان سمتاً حسناً، ولذلك لما قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الكهف أخذ يسافر بروحه وبكيانه مع موسى والخضر وهما في سفر عجيب وفي حوار غريب، فلما انتهى القصص، قال الخضر عليه السلام: هذا فراق بيني وبينك، قال صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يستمر في الحوار، يقول: {يرحم الله موسى ليته صبر حتى يقص علينا من خبرهما} كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: استعجل موسى، وليته صبر قليلاً حتى نسمع كثيراً من الأخبار العجيبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش الأنس والمتعة، ويعيش التربية والأدب، ويعيش التفقه مع القرآن، كان يقرأ القرآن -كما يقول سيد قطب - على خلاف ما نقرأه الآن، الواحد منا إلا من رحم الله إذا قرأ سورة القصص، يفكر: متى ينتهي منها ويمر بقصة موسى عشرين مرة، وهي قصة معروفة يعرفها حتى الأطفال، ولكن في قراءتها متعة ما بعدها متعة، وسلوى ما بعدها سلوى، ولذلك يتنقل بك القرآن في حدائق غناء وقصص عجيبة، وهو كتاب السماء، وهو كتاب الأعاجيب، مرة يقص عليك قصة يوسف وأنت تعيش معه في الجب وفي القصر، ثم في السجن، ومع الأبناء ومع الإخوة، وفي الرؤية، فما تنتهي من السورة حتى امتلأت علماً ويقيناً وإيماناً، ومرة يمر بك في الحدائق الغَنَّاء فيصف لك الأشجار السامقة، والتلال الوامقة، والنجوم اللامعة، والشمس الساطعة، وخرير الماء، وزقزقة العصافير، ويتركك من هذا المشهد، وينتقل بك إلى يوم القيامة، فإذا الأهوال: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:١ - ٥] وبينما أنت في ذلك الرعب ينتقل بك في ساحة الجهاد وإذا السيوف تلمع، وإذا الرماح تأخذ الأنفس والأرواح.
ولذلك يقول أبو العلاء المودودي في كتاب كيف تقرأ القرآن وهو كتاب من أحسن ما كتب، يقول: العجيب في القرآن أنه ليس كأي كتاب من كتب البشر، نحن الآن البحوث التي تقدم في الكلية، أو في أي مؤسسات علمية، يأتي أولاً قال: البحث فيه ثلاثة أبواب، والباب فيه أربعة فصول، والفصل فيه مطالب، والمطلب فيه فقرات، وهنا فهرس، ومقدمة الباحث، وكلام المشرف، والتعقيب، والحاشية، لكن القرآن لا يسلك هذا المسلك، يسلك بك مسلكاً عجيباً يتحدث لك في الكون، وبينما تقول سوف يستمر في الكون ينتقل بك إلى الطلاق، وأنت في الطلاق ومصارعة الزوج مع زوجته والمشاكل العائلية، وإذا بك في الحديقة وهو يتكلم لك عن الأزواج البهيجة، في الورود والزهور والماء، وبينما أنت كذلك وإذا به يدخل بك على الملوك، ويأمرهم بالعدل {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:٢٦].
ومن أسرار القرآن أنه لا يدعوك إلى فن من الفنون التي أتى بها البشر، هو ليس كتاب هندسة، وقد سبق هذا الكلام، ولذلك بعض الناس يقول في القرآن هندسة، فنقول له من أين الهندسة؟ قال: فيه دليل على أن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتين، قلنا: من أين؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] هذا ورد في تفسير موجود، ويقول: الخط المثلث دائماً زواياه منفرجة، قلنا: من أين؟ قال: من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة المرسلات: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:٣٠ - ٣١] فهذا ليس بصحيح.
وقال آخرون: القرآن كتاب جغرافيا، لأنه ذكر التضاريس، وذكر المناخات والمحيطات وهذا ليس بصحيح، وقال آخرون: القرآن كتاب طب، من أين؟ نعم هو يذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لمحات لكن القرآن كتاب هداية، يهدي البشر، ويحكم الدنيا بحكم الله، ويقود الإنسان إلى الله، الذي لا يعرف السر هذا فسوف لا يهتدي بالقرآن الكريم كثيراً.
القرآن كتاب هداية، وليس كتاب تاريخ ولا جغرافيا ولا هندسة ولا طب، وما أخبرنا متى ولد فرعون وكم عند فرعون من الأبناء والبنات، ولا متى توفي، إنما أخبرنا أنه مجرم، وأنه ضل، وأخبرنا أن موسى مهتد، وأنه دعاه إلى الله، ولا أخبرنا متى انتقل صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ومتى وصل إلى المدينة بحفظ الله ورعايته في الساعة كذا من يوم كذا في تاريخ كذا، ومن الذي كان على كبار مستقبليه، وكيف استقبل بحفاوة وتكريم، لا، ولم يخبرنا عن قارة آسيا ولا إفريقيا ولا أمريكا الشمالية والجنوبية، ولا استراليا.
ولم يخبرنا عن المناخ كذلك، أن الرياح تنخفض في المنخفضات وترتفع في المرتفعات، وأنها إذا هبت في وقت البرودة فهي باردة، وإذا هبت في وقت الحر فهي حارة، لا، إنما أخبرنا أنه يريد أن يقود الإنسان إلى الله.