[التاسعة تصف زوجها بالكرم والجود]
قالت التاسعة: {زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد}.
تقول: {زوجي رفيع العماد} أي: أن بيته متسع في وسط الحي يضيف الناس؛ لأن البخلاء عند العرب يسكنون في شوارع ضيقة لا يهتدي لها الإنسان، فيضيع قبل أن يصل البيت، ولذلك إذا وصف لك البخيل بيته قال: على يمين المسجد، ثم لف على اليسار ثم خذ يمينك، ثم يسارك حتى تضيع قال الشاعر العربي:
ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
يقول: أنا لا أسكن المنخفضات البعيدة، إنما أسكن على جانب الطريق، ويقولون: كان حاتم الطائي يسكن وسط قبائل العرب، وكان يشعل النار في الليل، ويقول: من يريد الطعام فليأت، فكان يشعل ناره حتى تعلن أن هناك كرماً فيأتون يهتدون إلى النار، تقول الخنساء في أخيها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار
وإن صخراً لوالينا ومنقذنا وإن صخراً إذا نشتوا لنحار
هباط أودية حمال ألوية شهاد أندية للجيش جرار
وقالوا: كان إبراهيم الخليل عليه السلام أستاذ التوحيد، وشيخ العقيدة؛ كان عنده قصر في أرض كنعان وله بابان، يقول للخادم من خدامه: إذا أتيت بضيف فأنت عتيقٌ لوجه الله، فانظر كيف سيكون شعور الخادم، سيأتي بضيف ولو من التراب، فيذهب هذا الخادم فيأتي بضيف، أحدهم ذهب فأتى برجلٍ كافر مشرك فأدخله في قصر إبراهيم عليه السلام، فقدم له إبراهيم صحفه، ولذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه في القرآن: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦].
والعجل هو التبيع، قالوا: سمين وقيل في سورة هود (حنيذ) سمين، وحنذه على الجمر حتى يكون أشهى، قالوا فقرب الطعام لهذا المشرك وقال له: قل: بسم الله، قال المشرك: لا أعرف بسم الله، قال: قل: بسم الله قال: لا.
قال: قل: بسم الله، قال: لا.
قال: والله لا تطعمه، فأوحى الله له: يا إبراهيم عجباً لك، خلقت هذا وله ستون سنة أطعمه وأسقيه، وراد أن يتعشى عندك ليلة فحرمته.
قالت: {رفيع العماد} يعني: أنه يتصدى للضيوف دائماً ويرحب بهم، وأكرم من عرفت الخليقة محمد عليه الصلاة والسلام:
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
وكان يخرج بالطعام على الناس ويدخل أصحابه على طعامه، وسأله رجل فأعطاه بردته، ويعطي مائة ناقة، وكان المال عنده مثل التراب، وقال ابن عباس في الصحيح: {كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فكان رسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة}.
واختلفوا في أكرم العرب، على كل حال جلس ثلاثة في البيت العتيق واختلفوا في أكرم العرب، فقال بعضهم: أكرم العرب عرابة الأوسي كان يطعم صباح مساء.
وقال الثاني: عبد الله بن جعفر.
وقال الثالث: بل أكرم العرب قيس بن سعد بن عبادة فقالوا: كلٌ منا يذهب ويلبس ألبسة رديئة ويظهر في مظهر مسكين ويسأل صاحبه ثم عودوا إلى الحرم، وننظر ماذا يعطيكم، فذهب صاحب عبد الله بن جعفر الطيار إليه، فوجده قد خرج إلى الشام على فرس يريد سفراً قال: أنا رجل منقطع وأريد مالاً قال: خذ هذا السيف وخذ هذا الفرس، ولو كنت في المدينة أعطيتك، وأنا أريد السفر لكن سوف أنزل تحت هذه الشجرة حتى يأتيني ركب والله يرزقك، قال: لا أقطعك ولا أقطع سفرك قال: والله لتأخذنه، قال: فأخذت السيف والفرس بما عليه، وجلس هو تحت شجرة ينتظر المسافرين، وذهب الثاني عند قيس بن سعد بن عبادة فطرق عليه الباب فخرجت الجارية قال: أريد مالاً أنا فقير فذهبت قالت: مولاي نائم ولكن خذ ألف دينار ولو كان يقظان لأعطاك -ألف دينار تعادل مائة ألف اليوم- وذهب الثالث إلى عرابة الأوسي فوجده قد عمي وخرج إلى المسجد على عبدين يتكئ على أحدهما باليمنى وعلى الآخر باليُسرى ويريد صلاة العصر فقال: أعطني من مال الله، قال عرابة الأوسي: ذهبت النفقات بأموالي ما بقي إلا هذان العبدان خذهما لك قال: فأخذتهما وأخذ هو يعتمد ويلتمس الجدار إلى أن وصل المسجد قالوا: أكرمهم عرابة الأوسي فقال فيه الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجدٍ تلقاها عرابة باليمينِ
قالت: {زوجي رفيع العماد، طويل النجاد} يعني طويل السيف، ليضرب به في المعركة أي أنه شجاع {عظيم الرماد} وهي عند العرب تحتمل الذم وتحتمل المدح، يحتمل أنه عظيم يقري الضيف كثير الرماد لأن قدره دائماً على النار، {قريب البيت من الناد} أي أن بيته وسط القرية ووسط المدينة يتصدى للضيوف، ليس لبيته بواب، وليس عليه حجاب وأبواب وحدائق حتى لا تصل إليه إلا بشق الأنفس.