[جواز الاحتجاج بالقدر في المصائب لا في المعايب]
المسألة السابعة: القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب، من القواعد المجيدة والجيدة، أن القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعايب؛ فإذا أصبت بمصيبة كأن يسقط ابنك من على السقف فتكسر ومات، فلا يصح أن يقول لك الناس: لماذا سقط ابنك؟ أو تقول: يا رب! كيف تسقط ابني ولا تسقط أبناء الجيران، أو كيف ترسب ابني وتنجح أبناء فلان، أو مثلاً أصابك عمى -نسأل الله أن يعافينا وإياكم وأن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا- فلا تقل: لماذا أصابني العمى؟ لكن تقول: قدَّرَ الله وما شاء فعل، فهذه مصائب وقعت، يجوز فيها الاحتجاج بالقدر لكن لا يستدل به في المعايب، مثل إنسان يشرب الخمر فإذا قلت: كيف شربت الخمر؟ قال: كتب الله عليّ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة أن أشرب الخمر في وادي فلان عند آل فلان بعد صلاة كذا وكذا! فهذا من الحمق، أو مثل إنسان يسرق، فتقول: كيف تسرق؟ قال: كتب الله عليَّ! أو إنسان يضرب أبناء الناس، يتصدى لهم في كل حي وحارة، ويقول: كتب الله عليَّ قبل أن يخلق السموات والأرض أن أضرب أبناء الجيران، فنقول له: لا.
هذا لا يصح.
وهذا عمر بن الخطاب وفد إليه سارق، فقال: لماذا سرقت؟ قال: سرقت بقضاء وقدر، قال عمر: سبحان الله! عليّ بالسكين، يظن أنها تنطلي على أبي حفص، أعطي القوس باريها، فلما أتى بالسكين وقطع يده، قال السارق: كيف تقطع يدي والله كتب عليّ أن أسرق، قال: نعم، سرقت بقضاء وقدر ونحن نقطع يدك بقضاء وقدر.
فقطع عمر يد السارق تنفيذاً للأمر الشرعي، وفعل ذاك أمر كوني، ولا يعارض الأمر الكوني بالقضاء الشرعي لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه كأنه يقول: أنت تعرف أن هذا حق وهذا باطل، هذا رشد وهذا ضلال، هذا ثواب وهذا خطأ، وإلا لماذا نحن نأتي فنحب الظل ونكره الشمس؟ في منافعنا الدنيوية نحرص على ما ينفعنا، والإنسان منا يكد ويكدح في النهار، حتى يحصل معاشه، وإذا قلت له: اجلس في بيتك بارك الله فيك وسوف يأتيك رزقك قال: لا.
لابد أن العبد يكد ويشتغل ويجد وسوف يأتيه رزقه إن شاء الله، لكن إذا أتت الصلاة فلا يتحرك إلى المسجد، ويستدل بالقضاء والقدر، لماذا لا يستدل بالقضاء والقدر في المعاش؟ وفي أمر المعيشة وتدبير أحواله، وأغراضه ويستدل بها في الطاعة؟ فنلزمه بمثل ما ألزم نفسه.
إذاً القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب، لكن هنا مسألة قد يستشكلها البعض، وهي: أن احتجاج آدم عليه السلام كان في المعايب؛ فأكل الشجرة من المعايب، وليس من المصائب، أليس والخروج من الجنة من المعايب والذنب، لأنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سماه ذنباً، ولم يسمعه مصيبة فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١] فلم يقل: أبتلاه الله بمصيبة، وإنما قال: فعصى، سماه عاصياً، أليس في هذا دليل على أن آدم عليه السلام استدل بالقضاء والقدر في المعايب ولم يستدل به في المصائب، نقول: لا، يقول ابن القيم في كتاب شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
القضاء والقدر يستدل به في مسألتين:
المسألة الأولى: في المصائب.
كلما أصابتك مصيبة فقل: قدر الله وما شاء فعل، ويستدل به في المعايب في صورة واحدة وهي: فمثلاً إذا تبت أنت، كنت في شبابك مسرفاً على نفسك ثم تاب الله عليك وهداك، فرءاك الناس وأنت خطيباً، ومتكلماً واعظاً، فيقولون لك: أنسيت فعائلك طول الدهر؟ أنسيت صنائعك؟ أمثلك يدعو الناس؟! فتقول: نعم قدر الله عليّ في شبابي أن أفعل، ولكن هداني الله، وهذا من باب استدلال آدم عليه السلام لموسى، يقول لموسى: أتاب الله علي الآن أم لا؟ قال: نعم تاب عليك، قال: فلماذا تلومني على أمر قد كتبه الله علي وتاب الله علي منه، وموسى عليه السلام يعلم أن الله تاب على آدم، لأن الله سبحانه يقول: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:٣٧] وقال: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] فذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه تاب عليهما، فأنت يصح لك أن تحتج بالقضاء والقدر بعد أن تتوب من الذنب، أما قبل أن يتوب الإنسان فلا يجوز له أن يحتج بالقضاء والقدر.
كمثل إنسان يترك المساجد ويهجر بيوت الله، ويعصي الله عز وجل، ويتمرد على حدوده، ويقول: قضاء وقدر! نقول: كذبت لعمر الله، بل أخطأت على الله عز وجل وتجاوزت حدوده.