[الصحابة في رمضان]
والعجيب أن الصيام من أعظم ما يربي العبد على الصبر، ومن أعظم ما يقود روحه إلى مولاه تبارك وتعالى، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً} وما معنى في سبيل الله كما قال أهل العلم أي: الغزو في سبيل الله، ومقاتلة الأعداء، بأن تصوم وأنت مقاتل، فقولوا لي بالله -يا أيها الجيل، يا أيها الأخيار- من منا أكثر من الصيام وهو ليس في سبيل الله، بل تحت الظل، ومع الماء البارد، وتحت المشهيات، ومع كل ما لذ وطاب؟!
صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يصومون والقنا على رءوسهم، والسيوف تتحاك على آذانهم، والرماح تتشاجر بين وجوههم، ومع ذلك يصومون.
روى ابن كثير وغيره عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما حضر معركة مؤتة كان صائماً، وكان هو القائد الثالث، فلما قتل القائدان الاثنان زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، دعي إلى أخذ الراية رضي الله عنه وأرضاه، وقد سبق له قبل سنوات أن بايع في صك، أتى من رب العالمين، كما يقول ابن القيم - أملاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ووقع عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، على أن السلعة الجنة، وعلى أن الثمن أرواح المؤمنين، فكان ابن رواحة من المبايعين.
يوم قال للرسول عليه الصلاة والسلام يوم بيعة العقبة: {يا رسول الله ماذا تريد منا؟ قال: أن تحموني مما تحموا منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم، فقال: ما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل} والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع، فلم يكن لـ ابن رواحة الحق أن يقيل أو يستقيل.
حضر في مؤتة وهو صائم، ودعي والشمس تميل إلى الغروب، وتأذن بالأفول، وهو جائع، وهو في شدة الحر والسيوف أمامه، والقتلى حوله، فقال: اتوني بعرق لعلي أشد به جوعتي، فأتوا له بقطعة من اللحم وهو صائم على فرسه، فنظر إلى الشمس، حتى في هذه الساعة الحرجة، والأرواح تتطاير، والنفوس تسافر، واللحوم تتمزق، والرءوس تضرب في الأرض يتحرى غروب الشمس.
قال: أغربت؟ قالوا: نعم غربت، فأخذ لقمة وقال: باسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فأتى يأكلها، وقد دعي ليقود المعركة، وليدف دفة المعركة، وليدير كئوس الموت على رءوس الأعداء، فأكل مضغة فما وجد لها مذاقاً، فقد ذهب طعم الطعام، وذهبت لذة الشراب، وذهبت بقية الحياة، ما أصبح للطعام لذة، وما أصبح للشراب معنى، وكيف يكون له معنى وقد قتل زيد وجعفر والأحباب والأخيار وأصبحت الخيول تدوسهم بالسنابك، فلفظها من فمه، وأخذ جفنة السيف فكسرها على ركبته، وقال وهو ينشد نشيد المعركة، وأغنية الفداء، وأنشودة التضحية:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم خاض غمار المعركة، وما تم الغروب إلا وهو في روضة من رياض الجنة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] رضي الله عنكم يا من رفعتم راية الإسلام على الجوع، ورضي الله عنكم يا من بذلتم الجهد والمشقة وأنتم جوعى في سبيل الله.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمـ ـك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
وفي الصحيح من حديث أبي الدرداء قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كنا في أشد الحر، فكان الواحد منا يتقي حر الشمس بكفه، وما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة، فانظر إليه في السفر وفي القتال كيف يصوم، كيف يتربى؟ وحياة -والله- ليس فيها صيام ولا تدبر للقرآن ليست بحياة الآدميين، بل حياة البهائم.
ولذلك ذكروا في ترجمة روح بن زنباع -وهو أمير أموي- أنه مر بالصحراء معتمراً، وكانت له سفرة كبيرة فيها لحوم وفواكه وخضراوات ومشروبات، فمر بأعرابي وهو يرعى غنمه، فقال له روح بن زنباع: تعال أيها الأعرابي كل معي من الغداء.
فقال الأعرابي: لقد دعاني من هو أكرم منك إلى مأدبته.
قال: ومن هذا؟
قال: الله رب العالمين، قال: بماذا؟
قال: أنا صمت وسوف أفطر له.
قال روح: أفطر اليوم وصم غداً.
فقال الأعرابي: وهل تضمن لي أيامي يا أيها الأمير؟
فبكى الأمير، وقال: حفظت أيامك وضيعنا أيامنا.
فإن العبادة كل العبادة أن تكون في سبيل الله عز وجل، وأن تكون لوجهه، وأن تجد المشقة في سبيله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، حينها لا تجد للتعب في نفسك كلفة، ولا تجد للجوع ولا للظمأ مشقة.
إن كان سَرَّكم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
عاش الصحابة وعاش السلف الصالح دقائق رمضان توجهاً وجهاداً وخدمة في سبيل الله، ولذلك كانت أعظم معارك الإسلام وأعظم انتصارات المسلمين في رمضان، فإن بدراً وفتح مكة وحطين وعين جالوت كلها كانت في رمضان.
فلقد كانت الانتصارات الرائعة في هذا الشهر الذي نزل القرآن فيه ليحيي به الأمة الميتة التي ما عرفت إلا التقاتل على موارد الشياه والإبل والبقر، الأمة التي ما عرفت الحضارة ولا الثقافة، وبقيت في الجهل آلاف السنوات، نزل القرآن ليقول لها: استفيقي وانظري إلى السماء، أنقذي البشرية بلا إله إلا الله، وهذه الأمة لا يردها إلى الله إلا القرآن ورمضان، ولا تُقبل على الله إلا برمضان والقرآن.
فيا أيها الأخيار! ويا من شابت لحيته في الإسلام! هذا شهرك -وكأنه الأخير- فاجعله خاتمة مطافك مع الله، ويا أيها الشاب الذي أقبل تائباً إلى الله! هذا شهرك شهر التوبة والإقبال فاغتنمه في التقرب إلى الله، ويا أيها المسيء الذي أكثر من العصيان! اليوم فرصتك الذهبية، ويومك الثمين، وعيد ميلادك يوم أن تلد في التوبة ميلاداً ثانياً؛ لأن الكافر يموت مرتين، والمؤمن يحيا مرتين.
أما الكافر فيموت أول مرة يوم أن تموت روحه عن لا إله إلا الله، وتموت نفسه عن مبادئ لا إله إلا الله، ويموت ضميره عن ضوء لا إله إلا الله، ويموت مرة أخرى يوم تخرج روحه.
والمؤمن يولد مرتين، ويحيا حياتين: الحياة الأولى: يوم أن تأتي بك أمك فتقع على الأرض وأنت على الفطرة، والحياة الثانية: يوم أن تحيا بالإسلام، ويوم أن يتوب الله عليك، فإن كثيراً من الناس أحياء وليسوا بأحياء، يأكلون ويشربون ولكنهم ليسوا بأحياء، لأن الحياة أن يسافر قلبك إلى الله، وتعيش مع الله، وتقضي عمرك في عبادة الله {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢].
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
أقول ما تسمعون، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئها، وأن يجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، وأن يجعلنا ممن مَنَّ عليهم بالتوبة، وممن جعلهم من ورَّاث الجنة، وممن تاب عنهم في هذا الشهر، وممن ختم لهم بالحسنى، وممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.