[دعبل وتهانيه للملوك]
ومعنا دعبل الخزاعي، وله نكات ولطائف، حتى أنه قبل أن يقتل أوصى أن يُدفن في النجف عند أهل البيت في طرف المقبرة؛ لأنه كان يحب أهل البيت حباً شديداً، وقد غالى فيهم وزاد حتى تجاوز السنة، ونحن نحبهم ونتولاهم فأوصى أن يُدفن على طرف مقبرة أهل البيت، وأن يُكتب على قبره: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:١٨] والعجيب أنه كلما جاء خليفة تناوله بقصيدة، والأصل أن الناس كانوا يهنئونه ويرسلون له برقيات التهاني، وهم في فرحة، لكن دعبل كان يرسل له بقصيدة، فعندما تولى المأمون وهنأه الناس، جاء دعبل وأرسل له قصيدة، يقول فيها:
يسومني المأمون خطة هاشم؟؟ أوَما رأى بالأمس رأس محمد؟
يقول: إن محمداً الأمين -أخاك أيها المأمون - قتلناه نحن قبيلة خزاعة على يد طاهر بن الحسين الخزاعي فاعلم أننا سنقتلك أتقتل المأمون يا دعبل؟! قال:
شادوا بذكرك بعد طول خُمولِهِ واستنهضوك من المحل الأوهدِ
يقول: لاحظ يا مأمون! أننا نحن الذين رفعناك.
دعبل هذا رجل أعرابي عنده أتان ما تساوي مائة درهم، ويقول: إنه هو الذي رفع المأمون، الذي جده خليفة، وأبوه خليفة، وإخوانه خلفاء، وولِد في بيت الخلافة! فقال المأمون: قاتله الله، ويلي عليه، يقول دعبل: هو الذي استنهضني؟!
شادوا بذكرك بعد طول خُمولِهِ واستنهضوك من المحل الأوهدِ
ثم انتهى من القصيدة، لكن المأمون كان عنده حِلْم، حتى أنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد حُبِّبَ إلي العفو حتى خشيت ألا أوجر عليه؛ لأنه أصبح عنده سجية وجِبِلَّة، حتى أنه عفا عن الفضل بن الربيع، وعن أناس كبار أرادوا قلب الدولة؛ لكن خطيئته -والله سبحانه وتعالى يتولاه- ما فعل في فتنة القول بخلق القرآن، وهذا حديثٌ طويل، ندعه ونرجع إلى قصة دعبل الخزاعي.
هذا الرجل مدح آل البيت بقصيدة من أعظم القصائد، يسميها الكرمي: القصيدة العامرة، وصَدَق! وهي من أمهات الشعر وعيون الأدب، يقول فيها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
لآل رسول الله بالخيفٍ من منى وبالركن والتعريف والجمراتِ
ديار عفاها كل جَون مباكر ولم تعف للأيام والسنواتِ
قفا نسأل الدار التي خف أهلها متى عهدها بالصوم والصلواتِ؟
إلى أن يقول فيها:
إذا وُتِروا مدُّوا إلى واتريهم أكفَّاً عن الأوتار منقبضاتِ
إذا ذكروا قتلى بـ بدر وخيبر ويوم حنين أسبلوا العبراتِ
قبور بـ كوفات وأخرى بـ طيبة وأخرى بفخ ما لها فلواتِ
فقبر بأرض الجوزجان محله وقبر بباخمرا لدى الغرباتِ
في قصيدة طويلة وجميلة ورائعة، وذهب يلقيها على علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فأغمي على هذا الأمير، وهو ولي العهد، فوقع من على الكرسي، وهو يلقي عليه هذا الرجل قصيدته، ثم أعطاه بردَته جائزةً له، فمر ببلدة قم وفيها شيعة، فقالوا: أعطِنا إياها بما أردتَ من ثمن.
فقال: والله لا أبيعها، فتناهبوها حتى ما أصبح في يده إلا كشف الرأس، وذلك ليتبرك بها.
ولما مات المأمون، وتولى بعده المعتصم، أرسل له برقية تهنئة، يقول فيها:
ملوك بني العباس في الكُتْب سبعةٌ ولم تأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ
لأن الثامن هو المعتصم.
فيقول: من أين جئت أنت؟ ما أنت منهم أصلاً ولا لك أي حق في الخلافة.
انتهى من الإشكال مع المأمون، والآن يحسب أن الحال سيصلح، قال:
ملوك بني العباس في الكُتْب سبعةٌ ولم تأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعةٌ وثامنهم فيما أتى عندنا كلْبُ
واسمع إلى الكلام الآتي وهو يعتذر للكلب، ويقول: مع احترامي للكلب أستغفر الله العظيم، وهذا مع من؟ إنه مع المعتصم الذي دوخ الروم، وجعلهم يتركون المدن، وكان يحرق المدن مدينة بعد مدينة حتى قال أبو تمام:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجربِ
خليفة الله جازى الله سعيكَ عن جرثومة الدين والأخلاق والحسبِ
أجبت صوتاً زَبْطَرِياً هرقت له كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
هذا المعتصم القوي الشجاع الفتاك يُتَناوَل بهذا الكلام؟! انظر إلى المجازاة! قال:
وإني لأُزْري الكلب عن ذكره بكم لأنَّ لكم ذنباً وليس له ذنبُ
يقول: مع احترامي للكلب.
إلى آخر القصيدة.
فسمعها المعتصم، فغضب وأزبد وأرعد وقال: عليَّ به، ففرَّ إلى خراسان، وضاعت القضية، فأتى به الله، ولم يقتله المعتصم، وإنما قتله مالك بن طوق الوزير عندما تعرَّض له دعبل بقصيدة، فاستدعاه فحلف أنه ما قالها، وأنها وضعت عليه -من الذي وضعها عليه؟ وما هذه الصهيونية العالمية التي تنْظُم أشعاراً للشعراء هؤلاء؟!
فقال له: لكني إذا تركتك فستعدي غيرك، فشهَّر به وجلده أمام الناس، ثم أرسل له من اغتاله في خراسان، وقيل: بل سقاه سماً، فذهب شَذَر مَذَر.