[تقديم الدنيا على الآخرة]
السبب الخامس عشر: تقديم الدنيا على الآخرة: يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتتنافسوا فيها، فتهلككم كما أهلكت الذين من قبلكم} ووالله لقد وقع هذا، هل سمعت بالجدال والشجار بين الأرحام إلا يوم فتحت الدنيا؟
هل كان الرحم يجلس مع رحمه والصهر مع صهره والجار مع جاره بين يدي القاضي في مشكلة قبل أن تفتح الدنيا؟
هل كان الناس يتجادلون على الأراضي وعلى الأموال، وعلى خصومات السيارات، وعلى المعارض، وعلى الدنيا إلا يوم فتحت الدنيا؟
نعرف ونحن شباب أن الناس قبل عشرات السنوات كانوا أصفياء أحباء يجتمعون في بيت واحد ويجتمعون على سمر، وعلى حب ويتزاورون، فلما فتح الله عليهم الدنيا تهالكوا، لم يكن عندهم أراض، كان الإنسان عنده بيت وعنده دابة -حمار- وبقرة وثور، ويذهب في الصباح يحرث في مزرعته، ويأتي في المساء ويجلس مع جيرانه سمر وحب وصفاء ومزاح ووداد وزيارات وإخاء، فلما فتح الله عليهم بقطع الأراضي والأموال، تذابحوا وتناحروا، وسجن الكثير منهم، وتقاطعوا في الأرحام، وجلسوا في المشكلات.
مررنا بقرية من قرى الجنوب، وقال لنا أحد الناس في القرية: والله إن صاحب هذا البيت وهذا ما بينهم إلا خط مزفلت لا يسلم على أخيه شقيقه من عشرين سنة، بسبب قطعة أرض.
أين الإيمان؟
أين معنى الصلاة؟
أين معنى الخوف من الله؟
بعضهم -أقولها صراحة- يقول: والله لقد هممت أن أذبح فلاناً، لماذا؟ قال: لمزارع أخذها علي حسيبه الله، تجد المزارع ليست له ولا لذاك، لكن يخطط أن يغتاله في سبيل الله!!
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
لذلك الفقر لا يُخاف منه، إنما يُخاف من الغنى.
والتشاحن لم يأت إلا من انفتاح الدنيا، حتى كلام الناس أصبح في الدنيا إذا دخلت المجالس الآن، أصبح التكلم عن الأسعار، حتى أصبح الناس الآن مع أسعار البترول، يعني: الأزمة الآن رفعت سعر البرميل، فأصبح حتى الذي لا يعرف أن يقرأ الفاتحة يلاحق سعر البرميل بسبب تعلق الناس بالدنيا وعدم تعلقهم بما يقربهم من الله , وإلا فلن يموت أحد جوعاً ما دام رزق الله وافراً، ولكننا نخاف -والله- من الدنيا أن تشتت فيما بيننا كما حدث، ونعوذ بالله من الخذلان والنكوص على الأعقاب.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [النحل:١٠٧] أحبوا الدنيا على الآخرة، تجد الشيخ في السبعين من عمره لا زال يبني ويراقب البنائين ويقف بنفسه على حسن العمارة وحسن الصياغة كأنه يعيش بعد السبعين سبعين أخرى، فماذا قدم للآخرة؟
أنا رأيت في صحيفة مقابلة مع شيخ عمره (١٢٥سنة) من قرية من القرى ربما رأيتموها ماذا قدم هذا لعمره؟
سألوه: تزوج أكثر من ثلاثين امرأة، ما الفائدة؟
وعنده أبناء كثير، لكن لم يسألوه عن الدين، كم تصلي من النوافل؟
كم تذكر الله عز وجل؟
ما هو عملك اليومي؟
هل استفدت شيئاً من تجاربك في طول الحياة؟
ما هو الفرق بين الصُّفَّة التي عشتها فيها وهذه الصُّفَّة؟
الشكر لنعم الله عز وجل؟
كيف حالة الفقر الذي عشته وهذه الحالة؟
كيف الناس الذين عاهدتهم وهؤلاء الناس؟
هذه هي الأسئلة، أما أن تسأله ماذا يفطر في الصباح؟
يفطر بخبزه في الصباح فيها ثلاثة كيلو بر ويقول: لا يأكل من هذه المعلبات شيئاً لا من الصلصلة ولا شيء، ولذلك يقول: عظمي كالحجر ولا زال يصعد الجبل، هذا طيب، لكن ما هي الدروس والعبر من (١٢٥سنة).
ابن تيمية عمره ٦٣سنة قدم للأمة أكثر من ٣٠٠ مجلد، قدم للأمة دمه، قدم للأمة علمه، وكثير من الناس ما هو ذكره؟
عبادته؟ صلاته؟ صلاحه؟ أثره في المجتمع؟ إصلاحه بين الناس؟
هذا هو الصحيح.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:٢٧] واليوم الثقيل هو: الآخرة.
فنحن أحببنا -صراحة لا يسلم من هذا أحد- الدنيا ورسخت في أذاهننا واستولت بحديثها على مجالسنا، وأصبحنا نخاف.
لما جاءت فتنة الخليج هذه هرع الناس إلى الأسواق، إلى الرز والسكر وكدسوها في المخازن كأنهم لا يموتون، ونحن - الحمد لله- من أكثر الشعوب منافذ على البحر من كل جهة.
والأمر الثاني -كما قيل-: لن تأكل أنت وجارك جائع، إذا قامت المشكلة أصبح الناس سواسية.
والأمر الثالث: أين الثقة بموعود الله- عز وجل-؟ والواجب أنا نكدس للآخرة من العمل الصالح كما كدسنا للدنيا.