للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اللين في النصح]

ومن آداب أهل السنة في النصيحة؛ أنهم ينصحون بلين، أي: بكلمة حانية، بكلمة طيبة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو يذكر نصيحة إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك: "يا أبت" وانظر أدب الخطاب، لم يقل: لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا، وإنما قال: يا أبت! ثم كرر يا أبت مرات، وهذا هو اللطف.

وهذا أتى في سورة لقمان، يوم قال لقمان رضي الله عنه لابنه: يا بُني! فقال في أول الخطاب: يابني! أخذ من ذلك بعض العلماء: أن عليك أن تقدم مقدمات للمنصوح، إذا أخطأ عالم من العلماء فلا تقل: يا فلان! أخطأت، لكن قل: أنت صاحب فضل، وأنت صاحب خير، ونفع الله بك، وقد شفى الله بك العليل، وأروى الغليل، وأفاد الأمة، ولكن ما رأي سماحتكم في هذه المسألة؟ أينكرها؟ أما أن تصدمه بالرد صدماً على وجهه، فكيف يقبلها؟ تأتي إلى وجيه في الناس فتقول: أنت فيك كيت وكيت، وقد نفع الله بك، ثم تذكر جوانب الخير فيه، ثم تلاحظ عليه ملاحظة، هذا من اللين.

قال ابن المبارك، في بيتين من أدب الدعاة وأدب النصيحة:

إذا رافقت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق

ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق

هذه حق على كل مسلم يريد الدعوة -أحقه أنا، وما أحقه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم- أن يحفظ البيتين، هذه تكتب بماء الذهب، تخرج من مثل ابن المبارك، ابن المبارك قوي على أهل البدعة، على جهم المجرم، ألا تعلم ماذا يقول في جهم، صاحب البيتين هذه، يقول:

عجبت لدجال دعى الناس جهرةً إلى النار واشتق اسمه من جهنم

اسمه جهم مشتق من جهنم فكان شديداً على أهل البدع، لكن مع إخوانه كالماء،

وأتى إلى إخوانه فقال:

إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق

ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق

ذكر الشيخ الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي، العلامة الشهير رحمه الله قاعدة عن ابن تيمية، في كتابه المأمول قال: يقول شيخ الإسلام: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح -ما أحسنها من كلمة- بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح.

الذباب وأنت بثيابك البيضاء النظيفة، وبطيبك، وبمظهرك، لا يقع عليك، لكن إذا رأى جرحاً في جسمك وقع عليه وانصب عليه، فبعض الناس يترك المحاسن وينسى الفضائل ويقع على منقصة أو عيب كما يفعل الذباب إذا انطلق إلى هذا الجرح فلا بد من اللين.

دخل واعظ على هارون الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين! إني واعظك ولكني سأشدد عليك.

يقول: عندي موعظة، لكنها حارة ساخنة، ويتكلم مع، خليفة لو أراد ذبح رجل لذبحه، وقف أمامه، والسيوف على رأس هذا الواعظ، ويقول: يا أمير المؤمنين! عندي كلام لكنه شديد فاسمع لي، قال: والله لا أسمع لك، والله لا أسمع لك، والله لا أسمع لك، قال: ولم؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] ما هو الداعي للكلام الشديد؟ وهل بلغنا دعوتنا وأدخلناها في قلوب الناس بالحديد والرصاص؟ بل أدخلناها بالحب، أدخلناها بالبسمة، زرعناها بالود، فآتت أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.

فاللين اللين في تبليغ الكلمة، بإمكانك أن تصادر بعض الكلمات الجارحة، وأن تستبدل بعض الكلمات الطيبة الحميدة، وإنني أشكر بعض الفضلاء في الساحة حين كتبوا بعض الكتب والرسائل والأشرطة، فيها من الأدب والروعة والعلم ما الله به عليم.

ومن أراد أن يرى مثلاً حياً لأدب الدعوة، وأدب النصيحة، وأستاذاً معلماً في هذا الباب، وهو لازال على قيد الحياة، فلينظر إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رجل في الثمانين من عمره، يتكلم بالكتاب والسنة، عكف الله وعطف عليه القلوب، كلمته طيبة ولينة تصل إلى القلوب مباشرة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>