تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يقول الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر منته سُبحَانَهُ وَتَعَالى على الخلق: بسم الله الرحمن الرحيم {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:٢٨] سبق شرح هذه الآية، وسبق بيان بعض مقاطع ومقاصد هذه الآية، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٩].
هذه الآية فيها قضايا، وفيها ثلاثة مقاطع:
أولها: المقطع الأول: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:٢٩] وهذا المقطع يستدل به أهل العلم على أن كل ما في الأرض الأصل فيه أنه مباح، وهي قاعدة أصولية أخذوها من هذه الآية، وتساءل الرازي في تفسيره: هل الطين مباح أن نأكله؟ وهذا فيه تكلف.
فإن الله عز وجل أحل لنا الطيب المباح، وحرم علينا الضار الخبيث، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ويقول في محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:١٥٧].
فلا دلالة في هذه الآية على أن مثل الطين والتراب والصخور، وهذه الضارات أنها مباحة للأكل.
إن الله عز وجل أحل الطيب المفيد وحرم الخبيث الضار، ومن شاء أن يأكل تراباً فليأكل، ومن شاء أن يأكل طيناً فليأكل، والرازي أتَى بهذه لأنه يريد أن يعلقها بقاعدة عند أهل الأصول.
فقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:٢٩] يقول الرازي: جرم الأرض شيء، وما في الأرض شيءٌ آخر، وهو تفسيرٌ مقبول ومطلوب، و (لكم) هنا للملكية، أي: مباح لكم، وطيب لكم، ومهيأ لكم، بشرط أن يكون هذا الشيء نافعاً ومفيداً، أما إذا كان ضاراً فلا يكون هذا، وأما إذا كان مفسداً فلا يكون، بل هو محرم كالخمر والسم، والطين والتراب والصخر، وكل ما أفسد الهيئة والعقل فهو محرم، والخبيث المستقذر محرم.
إذاً: الطيب المفيد هو النافع الذي خلقه الله للإنسان، أكلاً وشرباً ولبساً، وإنما ذكر الله هذه الآية -كما قال أهل التفسير- بعد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:٢٨] ليذكر منته على الخلق سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:٢٩].
(فجميعاً) تعود إلى (ما في الأرض) وبعضهم يقول: تعود إليكم أيها الناس جميعاً، والأقرب أنها تعود إلى (ما في الأرض).
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) [البقرة:٢٩] سبحان الخالق! ولكن نحن لانتدبر، ولا نتفكر، ولا نعي، يقول بعض أهل العلم: كثرة المساس يبطل الإحساس، فمن كثرة ما تعودنا على رؤية السماء ورؤية القمر والشمس والنجم، أصبحنا لا نتدبر ولا نتفكر، لكن إذا خرج مصنوعٌ صنعه الإنسان، تفكرنا فيه وتدبرنا.
مر أعرابي في ليلة من الليالي في ليلةٍ مظلمة، فمشى في هذا الليل لا يرى مد يده، وفجأة طلع عليه القمر -والقمر: أزهى شيء عند العرب، دائماً ينشدون فيه أشعارهم، ودائماً يصفون الجمال بالقمر والبدر، يقول الصحابة عن الرسول عليه الصلاة والسلام: {كان وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر} يقول أحد الشعراء وقد دخل على الخليفة المكتفي، فبدأ قصيدته الغزلية التي يقول فيها:
حلفت لنا ألا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
هنا يقصد الدنيا، وبعضهم يقول: أنه يقصد محبوبته.
حلفت لنا ألا تخون عهودنا فكأنها حلفت لنا ألا تفي
والله لا كلمتها لو أنها كالبدر أو كالشمس أو كـ المكتفي
يقول: لا أكلمها ولو أنها كالبدر أو كالشمس أو كالخليفة، فغضب الخليفة لأنه وازنه مع المرأة.
المقصود أن الأعرابي طلع عليه البدر، فنظر في السماء فقال: سبحان من سواك! سبحان من رفعك! إن قلت: جملك الله؛ فقد جملك الله، وإن قلت: رفعك الله؛ فقد رفعك الله، وإن قلت: بهاك الله أو حسنك الله؛ فقد حسنك الله.
والمقصود أن في هذه الآية فارقاً لا بد أن يفهمه أهل الفضل وأهل الخير من أمثالكم.