[بعض سير الصالحين في الصبر]
أبو قلابة أحد العلماء يقولون: أصابه مرض في أطرافه، فقطعت أطرافه الأربعة فزاره الناس-تصور إنسان أصابه مرض حتى قطعت يداه ورجلاه وأصبحت أطرافه مقطعة- قالوا: كيف أنت؟ قال: الحمد الله الذي كفر بسيئاتي ما قدمه لي في حياتي.
وممن يشهد له في هذا الجانب عروة بن الزبير تقطع رجله من الفخذ ويموت ابنه في نفس اللحظة، فيستيقظ من إغمائه ويقول: [[اللهم لك الحمد إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة أبناء، وأخذت ابناً واحداً، وأعطيتني أربعة أعضاء وأخذت عضواً واحداً فلك الحمد]] ثم يقول:
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا ذل لي فكري ولا نظري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
ولذلك قيل: ما هي علامة الصابر؟ قالوا: ألا يقول: أح، فالطفل إذا قرب يده من شيء حار قال: أح، حتى يقول أحد الشعراء في الصبر وهو الشريف الرضي -لكن صبره في ماذا؟! الشريف الرضي يطلب الإمارة والمنصب في الدنيا، يقول أنا صبرت حتى نلت الإمارة وهذا صبر لكنه ليس الصبر الذي نقصده، يقول:
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلام وقاح
إما فتى نال المنى فاشتفى أو فارساً زار الردى فاستراح
قال أحد العلماء ليس صبرك بصبر، بل الصبر:
إذا طلبت الله في كل ما أملته نلت المنى والنجاح
بهمة تذهب ماء الحصى وعزمة ما شابها قول آح
دخلوا على الإمام أحمد وهو مريض مرض الموت، إمام أهل السنة والجماعة -سلام على الإمام أحمد يوم ولد، وسلام عليه يوم أسلم، وسلام عليه يوم يموت، وسلام عليه يوم يبعث حياً- دخلوا عليه وبه من الحال ما لا يعلمه إلا الله، حتى كان يئن، أي: كان يزفر أنيناً، فقال له أحد الجلاس: سمعنا أن طاوساً كره الأنين للمريض، فما أنَّ بعدها أبداً.
ودخلوا على أبي بكر الصديق فقالوا: ماذا تشتكي؟ قال: [[عرضت أمري على الطبيب -يقصد الله عز وجل- قالوا: ماذا قال لك؟ قال لي: قال: إني فعال لما أريد]] أخذه شاعر الصوفية وقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
وهذه منازل يختارها الله لمن يشاء وأعظمها الصبر على الطاعات.
سيد قطب له كلام عجيب على هذا، يقول في كلام ما معناه: إن النفس إذا طاولها الباطل، وأتتها الشواغل والفتن، توقفت فاحتاجت إلى مدد ووقود حتى يأتيها الصبر والصلاة، واستعينوا بالصبر، وإذا انتهى الصبر فعليك بالصلاة.
جاء عند أحمد في المسند: {كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: أرحنا بالصلاة يا بلال} إذا اجتمع عليه أمر هم وغم قال: {أرحنا بالصلاة يا بلال} ولذلك وصيتي لمن أتت عليه هموم أو غموم أو كوارث أو مصائب أن يبدأ بالصلاة.
في ترجمة الحافظ ابن حجر صاحب الفتح، يقولون: خرج يوماً للنزهة فطوقه اللصوص من كل جانب -أراد عمراً فأراد الله خارجة - فقام يصلي ويركع ويقوم، فتبدد اللصوص عنه، فقالوا له: لماذا؟! قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥].
وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه أتاه مقتل أخيه فقام يصلي، قالوا: مالك؟ قال: يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥].
ولذلك ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنا في بدر فنظرت في الليل قبل المعركة بليلة -تصور أن الكفار سوف تواقفهم أنت بالسيف والسيوف بأيديهم ثم يكون قتالاً ذريعاً لا يعلمه إلا الله- قال: فنظرت فرأيت الناس كلهم نيام إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى الصباح} وهذا من باب ما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:٤٥] ولذلك يقولون: أكثر الناس صبراً أكثرهم صلاة.
وانظر إلى الإمام أحمد كم كان يصلي غير الفرائض؟ قالوا: ثلاثمائة ركعة، ولذلك لما أتت الفتنة وضرب بالسياط وهدد، كان من أصبر الناس، وأقل الناس صبراً أقلهم صلاة وخشوعاً، فتراه ينهار أمام الحوادث، إذا رأى النتيجة في الامتحان وكان يحمل مادتين بكى وأبكى الناس، وإذا وطئ إنسان رجله في الحافلة أو في مكان أقام الدنيا وأقعدها، وإذا فاتته سبعة ريالات شكا على الجيران والإخوان والناس، هذا انهزام وفشل، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:١٩ - ٢٢].
هؤلاء المصلون يحملون طاقات هائلة من الإيمان، يقول محمد إقبال في انتصارات الصحابة:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا