[المسجد منطلق الكتائب]
الرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد ثكنة عسكرية:
يقول أحد الرواة من الصحابة: {دخلتُ المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة، فلما انتهى من الصلاة قام بأبي هو وأمي على المنبر، فأخذ الراية بيده، وهي راية سوداء اسمها: (راية العُقاب) -أو (راية العِقاب) عند ابن إسحاق - فناولها بلالاً، وناولها بلالُ عمرو بن العاص؛ ليذهب إلى غزوة ذات السلاسل}.
من المسجد تنطلق الكتائب، ومن المسجد تَدْلُف الجيوش الإسلامية، ومن المسجد ينطلق الجندي مؤمناً مفادياً عن عقيدته ومبدئه وأصالته، وفي المسجد جعل صلى الله عليه وسلم إعلان الحروب على من أنشأها، ومن أراد تدمير الأمة.
وقف يوم الجمعة فندد بمشركين من مكة، وأعلن الحرب على أبي سفيان في الخطبة.
فالمسجد إذاً: تُدار فيه شئون المسلمين، وأمورهم الحربية والعسكرية؛ لأنه ثكنة عسكرية.
وقف صلى الله عليه وسلم في خطبة على المنبر يوم أحد، واستشارهم في الخروج أو المكوث في المدينة، فقام كبار الصحابة، وقالوا: نرى أن نبقى في مدينتنا، فنقاتل العدو داخل السكك، وفي زقاق المدينة.
ووقف نعيم بن مالك بن ثعلبة -شاب في الثلاثين من عمره- فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فوالله الذي لا إله إلا هو، لأدخلن الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: بم؟
قال: بخصلتين -هذه المؤهَّلات، مؤهَّلات أهل الإيمان والحب والطموح- بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت.
وبدأ صلى الله عليه وسلم بانطلاقه، لكن من المسجد، من المنبر، وذهب وعقد الراية، ووقعت المعركة.
يقول إقبال:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أم مَن رَمَى نار المجوس فأُطْفِئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
إنهم ذلك الجيل، جيل المسجد، الذين رضَعُوا أَلْبان الفهم من المسجد وفي المسجد دون غيره.
فهذه قضية.
من المسجد أطْلَق صلى الله عليه وسلم صوت الجهاد:
جلس للناس بعد صلاة العصر، ودار الحديث في المسجد بينه وبين الصحابة في مسائل، وإذا برجل يأتي بناقة ومعه عصا، اسمه: عمرو بن سالم، والظاهر: أنه خزاعي -كما قال ابن هشام - فنزل من على راحلته، وأخذ يخترق الصفوف وهو يقول:
يا رب إني ناشدٌ محمدا حِلْف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصراً أيدا وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو مصعدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فهذا رجل يستنصر بالله، ثم بالرسول عليه الصلاة والسلام، فقد دخل هذا الرجل في حِلْف مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أنه إذا اعتُدِي عليه من قريش، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام بدولته الإسلامية يتكاتف معه، ويسحق الباطل، فاعتُدِي عليه، فأتى يناشده بالميثاق الأول، وبالحلف الذي نُصَّ عليه في مكة.
فقام عليه الصلاة والسلام وقال من على المنبر: {نصرت يا عمرو بن سالم}.