[مكفرات الذنوب]
ثم قال ابن تيمية واستطرد في الجواب وأسهب، لكني آخذ رءوس الجمل، ولب الإجابة بلفظه إن شاء الله.
قال: "وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، فإنه أبلغ في المحو، والذنوب يزول موجبها بأشياء"
أي: يقول: ينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، مثل ماذا؟
مثل إنسان كان يستمع الغناء، فكيف يكون المكفر له إذا تاب؟ أن يكثر من سماع القرآن والأشرطة الإسلامية، وإنسان كان ينظر إلى الحرام فعليه أن يكثر النظر في المصحف! وإنسان كان يجالس البطالين والعاطلين والفجرة فعليه أن يكثر من مجالسة الصالحين، هذا مقصود ابن تيمية، فإنها أبلغ في المحو وتزول بإذن الله الواحد الأحد.
قال: والذنوب يزيل موجبها بأشياء -وقد عدها في عشرة مواطن، وألقيتها في درس اسمه (مكفرات الذنوب العشرة) وقد ذكر العشرة المكفرات- قال أحدها التوبة: فإن التوبة كما صح عند مسلم: {تجب ما قبلها} فإن الله عز وجل يغفر ذنوب العبد إذا تاب وأناب ولو كانت ذنوبه ملء السماء والأرض، لكن إذا صدق في التوبة وأخلص، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:١٣٥] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
ولكن من أصر على صغيرة فهي كبيرة، ويخشى عليه، ولذلك ورد عن بعض الشعراء أنهم أصروا على الصغائر، وقد لامَ كثيرٌ من العلماء مجنون ليلى الذي يقول في بيتٍ له:
أتوبُ إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوبي
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ
أستغفر الله! يقول: كل شيء أتوب منه، إلا ليلى هذه، فقالوا: إن كان ثبت عنه ما يقول، فهو من الذين أصروا على الذنب وهم يعلمون، ولا ينبغي للعبد أن يصر على ذنب، وتجد بعضهم يصر على صغيرة من الصغائر، تناصحه فيقول: لا أستطيع تركها، وهذا هو الإصرار بعينه، والذي يُخشى على العبد هو أن تأتيه المنية وقلبه معقودٌ على الذنب والخطيئة، فيهلك والعياذ بالله!
قال: والثاني مما يمحو الذنوب والخطايا: الاستغفار، وإن كان من غير توبة، فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال.
فانظر ما أحسن الكلام! إنه كلام محسوب، وكلامٌ عجيب، لا يأتي به إلا مثل ابن تيمية يقول: قد ينفع الاستغفار بلا توبة، لإنه دعاء، وقد يغفر الله لك ولو لم تتب، لكن بقولك: أستغفر الله والاستغفار له فوائد ثلاث:
الأولى: ألا يقدم الله هلاكك في الدنيا، يقول جعفر الصادق: لو نزلت صاعقةٌ من السماء؛ لأصابت كل عبدٍ إلا المستغفر، لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣].
الثاني: أنها متاع حسن في الجسم والولد، قال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:٩٠].
الثالث: أنها زيادة في المال والولد، قال نوحٌ عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:١٠ - ١٢] هذه فائدة الاستغفار.
قالوا: لـ خالد بن معدان الزاهد العالم الكبير، كم تستغفر في اليوم؟ قال: مائة ألف إن لم تخطئ الأصابع، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} وفي رواية: {مائة مرة}.
الثالث: من المكفرات التي تكفر الذنوب: الأعمال الصالحة: فوضوءك، وصلاتك، وذكرك لله واستغفارك، ودعاؤك، وحضورك مجالس العلم، واستفادتك من طلبة العلم، وحبك للصالحين، ودعاؤك بالسحر، وقيامك لليل، وصدقتك، كلها كفارة، ولن يهلك على الله إلا هالك، لأن أبواب الخير عدة الأنفاس، ولكن من يعمل؟ ثم مضى في المكفرات حتى أتى إلى كفارة المجامع في رمضان، والمظاهر، والمرتكب لبعض محظورات الحج، أو التارك لبعض واجباته، وذكر أنواع الكفارات، وهي أربعة أجناس: هديٌ وعتقٌ وصدقةٌ وصيام، ثم أسهب في هذه الأمور.
والسائل لا يريد هذا.
لكن يقول ابن القيم: لام بعض الناس شيخنا أنه يسهب في الجواب، ولكنه يريد نفع السائل، بهذا العلم، لأن السائل قد تخفى عليه أمور، فيريد ابن تيمية أن ينفعه، وهذا منهج الرسول عليه الصلاة والسلام.
عند الخمسة، ومالك والشافعي وابن أبي شيبة، بسندٍ صحيح: أن سائلاً أتى فقال: {يا رسول الله! إنا نركب البحر، وليس معنا إلا الماء القليل، فإن توضئنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟! فأجابه عليه الصلاة والسلام وقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته}.
هل يستطيع أحد أن يجيبك بمثل هذه الكلمة: هو الطهور ماؤه الحل ميتته، عرفها بمعرفتين، واختصرها في ثلث سطر، وبعضهم شرحها في مجلد، والله عز وجل ذكر مثل ذلك في القرآن، يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:١٨٩] أهل قريش يقولون: يا محمد! كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ثم يصغر! هذا أسئلة تافهة مثل أسئلة الأطفال وليست أسئلة عقلاء، فهل تنتظر من القرآن أن يقول: يكبر الهلال، لأن الله يكبره ثم يصغر لأن الله يصغره، لا، بل أجاب بجواب الحكيم عند أهل البلاغة، وجواب الحكيم عند أهل البلاغة أن يسمع السؤال، فيجيبه بجوابٍ لسؤالٍ آخر قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:١٨٩] يعني كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ثم يصغر، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩] يقول: لماذا لم يسألوا.
ما الفائدة من الهلال؟ ولماذا يسألون عن كبر الهلال وصغره؟!
فـ ابن تيمية استطرد ليفيد السائل، لكن نحن في عجالة وفي درس موجه للناس، فنريد أن نأخذ الجمل التي على السؤال نفسه، لنربطه بالعنوان إن شاء الله.
قال: "وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك -ومر هذا بالسلام والإكرام والدعاء له، والاستغفار والثناء عليه والزيارة له- وتعطي من حرمك -من التعليم والمنفعة والمال- وتعفو عمن ظلمك في مالٍ أو دمٍ أو عرض، وبعض هذا واجبٌ وبعضه مستحب".
وهذا قليلاً ما يطبق في المجتمع، ولا يطبقه في المجتمع إلا واحد في الألف، أما بقية الناس فبالمقاصة، يقولون: من نكد علينا؛ نكدنا عليه، ومن سبنا سببناه، ومن قاتلنا قاتلناه، ومن أخذ مالنا أخذنا ماله، وهذا ليس هو الأفضل، بل الأفضل: أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وقد فعلها محمد عليه الصلاة والسلام.
وابن تيمية نفسه فعل ذلك، وقد ذكروا عنه أنه بشر بموت أحد حساده لما توفي فدمعت عينا شيخ الإسلام، وقال: تبشروني بموت مسلم! قوموا بنا نعزي أهله، ثم ذهبوا إلى أهل ذاك العدو لـ ابن تيمية فعزوا أهله، فبكى أطفال ذلك العدو لما رأوا ابن تيمية، وقال: أنا أبوكم بعد أبيكم!!
وهذا هو تطبيق الإسلام قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٤] ويذكر ابن كثير وأمثاله -استطراداً- على هذه الآية، أن هارون الرشيد، كان عنده مولى يصب عليه الماء، وكان الماء حاراً، فصب عليه الماء، فسقط الإناء بحرارته من يد الرجل، على هارون الرشيد -الذي يعرفه الناس شرقاً وغرباً، فقد كان يملك ثلاثة أرباع البلاد الإسلامية ويجبى إليه الخراج، حتى إنه وقف على قصره في بغداد، ورأى سحابة فقال: امطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني، إن ذهبت إلى المغرب فـ المغرب في دولته، وإن ذهبت إلى الهند، فـ الهند في دولته، فكلها في دولته فاذهبي حيث شئت فإن زكاة الحبوب والثمار الذي نبت بسببك سوف يأتيني إن شاء الله، هذا هارون الرشيد - فعندما سقط عليه الإناء وهو حار التفت مغضباً إلى غلامه، فقال الغلام: والكاظمين الغيظ، قال: قد كظمته قال: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: أعتقتك لوجه الله.
وهذه مواقف جيدة من سيرهم الطيبة، فهم لمعٌ في الإسلام، وهم أهل دين واستقامة، ولو أن فيهم بعض الأمور، لكن على كل حال.
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا