للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النابغة الذبياني ويمينه البارة]

ك سار الناس، فمنهم من سكَّت الغضبان كما فعل النابغة الذبياني لما أتى النعمان بن المنذر.

والحقيقة أن الشعراء دينهم رقيق إلا من رحم الله، حتى يقول ابن كثير: على مذهب الشعراء في رقة الدين، وأستثني الحضور من أهل العلم والشعر والأدب؛ لأن هؤلاء سيوف إسلامية في الأدب والشعر؛ لكن في الجملة: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:٢٢٤] فدينهم رهيف خفيف سخيف، إلا أن يشاء الله.

فأخذ النابغة يعرِّض بغرفة النوم عند النعمان بن المنذر وانظر إلى العقل، من يلاعب الأسد؟!

احذر السلطان واحذر بطشه لا تعاند مَن إذا قال فعلْ

فأهدر النعمان بن المنذر دمه، ففر النابغة على وجهه، كلما أتى قبيلة وقال: أنا ضيفكم أستجيركم قالوا: إن كنت أنت النابغة فلا تدخل بيتنا، وكان ينام في النهار ويمشي في الليل، وفي الأخير أشار عليه أحد الحكماء أن يلبس أكفانه وأن يسلم نفسه إلى أقرب مخفر شرطة ليموت ميتة طبيعية فسلم نفسه، وذُهب به إلى النعمان بن المنذر؛ لكنه جهز ثلاث قصائد؛ لأن النفس -كما يقال- إذا كانت تغلي، فإنها تسخن في حنفيات حتى تصل إلى مصبها.

وكان النابغة قد مدح أعداء النعمان الغساسنة بقصيدة رائعة قال في أولها:

كِلِيْني لِهَمٍ يا أميمة ناصب وليلٍِ أقاسيه بطيء الكواكبِ

تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ

وصدرٍِ أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ

انظر إلى السحر الحلال! وليس كقصيدة:

نحن أبناء الجزيرة المثنى والمغيرة

التي كأنها درجات الحرارة، والصيدليات المناوبة.

نريد شعراً قوياً عارماً هائلاً مؤثراً في الناس، وإلا فلنرح أنفسنا والقراء من الإكثار من كتابة القصائد بمعدل أربعٍ وعشرين قصيدة في كل ثلاث وعشرين ساعة.

فهدر دمه، فلما جاء إليه النابغة قال له:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهبُ

لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب

فإنك شمس والملوك كواكبٌ إذا طَلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكبُ

فرضي، ثم قال له أيضاً:

فبتُّ كأني ساورتني ضيئلةٌ من الرُكس في أنيابه السُّمُّ ناقعُ

إلى آخر ما قال، وحلف له أيماناً الله أعلم بها.

وكان لنا شيخ في معهد الرياض العلمي، وهو ابن منيف طيب الله ذكره، وهو لا يزال حياً، ولو كان ميتاً لترحمنا عليه، والمقصود أنني حلفتُ أني أستحق درجة أعلى من الدرجة التي أعطاني، وأنا في ثانية متوسط -وهذا من الاستطراد- فقال: أيمين امرئ القيس أم يمين النابغة؟ قلت: لا أدري، قال: إن دريتَ كمَّلتُ لك الدرجة؛ لكنني لا أعرف القصة، فقال هو: إن امرأ القيس فاجر في يمينه، حيث يقول:

حلفتُ لها بالله حلفة فاجرٍ لناموا فما أن من حديث ومِن صالِ

وأما النابغة فيمينه بارة، حيث يقول:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهبُ

<<  <  ج:
ص:  >  >>