كذلك أرى أن على الداعية ألا يتقمص شخصية غيره، وألا يذوب في بعض الشخصيات، فتجد أن بعض الدعاة إذا أحب داعية أو عالماً آخر، قلده في كل شيء حتى في صوته، ومشيته، وحتى في حركاته فذاب في شخصية ذاك، والرسول صلى الله عليه وسلم يروى عنه وهذا الحديث في سنن الترمذي، لكن في سنده عبد المهيمن بن عباس فيه نظر يقول:{لا يكن أحدكم إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساء الناس أساء، لكن إذا أحسن الناس فأحسن، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم} بل في هذا الحديث اضطراب عند أهل العلم.
فذوبان الشخصية ليس بجيد للداعية، بل عليك أن تستقل في شخصيتك، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك، وأن الأرض لا تستطيع إلا بإذن الله عز وجل أن تخرج واحداً مثلك، فأنت من بين الملايين التي خلقها الله منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك، صوتك وملامح جسمك واستعدادك وما عندك من مواهب لا يشابهك فيها أحد، فأنت تقدم نفسك وتقدم ما عندك، لكن لا تذوب في الآخرين، ويسمي الغرب هذا ذوباناً وينهون عنه ويقولون: لا تتقمص شخصية غيرك.
قالوا عن الطاووس: أراد أن يقلد الغراب في مشيته، فنسي مشيته وما استطاع أن يقلد الغراب، وهذا يدخل يقع فيه بعض القراء، فإن القارئ منهم يريد أن يقلد قارئاً آخر فيتعب، فلا يحسن صوت ذاك، ولا صوته المعهود الذي منحه الله عز وجل، ويستثنى من ذلك ما إذا كان يستطيع أن ينطق مثل صوت ذاك بدون كلفة، وصوته جميل فلا بأس إن شاء الله.
وقس على ذلك الخطباء، حتى إنه يوجد من الناس من يتنحنح كما يتنحنح ذاك الشيخ، وليس به نحنحة، ومن يسعل كما يسعل ذاك الشيخ وليس به سعال، وهذا ذوبان مفرط، ويسمى انهزاماً نفسياً لا يقره الإسلام، بل الإنسان يبقى على شخصيته.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أصحابه على أن شخصية عمر قوية في الحق، أثنى عليه بقوته وقال:{مثلك يا عمر كمثل نوح وكمثل موسى} وأثنى على أبي بكر برقته وأبقى رقته له وقال: {ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وكمثل عيسى} عليهم السلام، فالقوي قوي، يبقى على قوته، لكن فيما ينصر به الدين، ولذلك نحتاج نحن -عالم الإسلام- إلى من هو قوي، في رأيه وفي إرادته، ونحتاج إلى من هو رقيق رحيم ونحتاج إلى كل طاقات الناس، فإن هذا له باب وهذا له باب، وقد سلف معنا كثيراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم نوع اختصاص الناس وجعلهم على جبهات بسبب مواهبهم، فسيد القراء أبي بن كعب وحسان للشعر، وزيد بن ثابت للفرائض، وأبو بكر للإدارة وعمر للقوة والصرامة والحزم وقس على ذلك.