للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كيفية معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومعايشته للنساء]

ومن معايشته صلى الله عليه وسلم للنساء: ما ذكرت سالفاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش أباً كان له بنات، بل رزق من البنات أكثر من البنين، فرباهن عليه الصلاة والسلام، وأحسن تربيتهن، وكان من عطفه أنه لا يسافر إلا ويمر ببناته، ولا يأتي من السفر إلا ويمر ببناته عليه الصلاة والسلام، وكان من حنانه ورقته أنه لا يمر يوم وهو في المدينة إلا ويصل فاطمة، وكانت مجاورة لبيته، حتى في قيام الليل، فكان إذا قام صلى الله عليه وسلم للصلاة يتوضأ، ثم يطرق على باب علي وفاطمة، وهو بيتٌ صغيرٌ من طينٍ لكنه مملوء بالنور والعظمة، أخرج زعماء العالم وقادته، وعند البخاري: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام من الليل، وأتى إلى علي وفاطمة فقال: ألا تصليان؟ فاستيقظ علي وهو يعرك النوم من عينيه، وقال: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله، إن شاء أرسلها وإن شاء أمسكها.

فذهب صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، ثم استمع هل سيسمع دفيف الباب، هل يسمع علياً أو فاطمة يتوضأ أحد منهما، فلم يسمع شيئاً، فعاد فطرق الباب ودخل وقال: ألا تصليان؟ قال علي: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إن شاء أمسكها.

وإن شاء أرسلها، فولى عليه الصلاة والسلام يضرب فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}.

وعند الترمذي أن فاطمة أرسلت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تريد خادمة (جارية تخدمها، تكنس البيت وتقمه، وتنظف الثياب) والرسول عليه الصلاة والسلام قد وزع الجواري -السبي- في الجيش وترك فاطمة ابنته، فأتى في المساء إليها، فوجد علياً في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادم}.

يقول ابن تيمية: هذا الحديث فيه دليل على أنه من قاله رزق قوة بإذن الله، واستطاع أن يقوم بأعماله، فإن الذكر فيه قوة، فمن قال هذه الثلاث والثلاثين تسبيحة، والثلاث والثلاثين تحميدة، والأربع والثلاثين تكبيرة، كن له عوناً وقوة بإذن الله، وتسديداً وهداية على أعماله وأشغاله في الحياة، ومنها: صلاة الفجر، وقيام الليل، فأوصاهم صلى الله عليه وسلم بذلك، فهذا من تربيته صلى الله عليه وسلم.

وكان عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يجرح شعور أحد من بناته، بل كان يقف بجانبهن ويتفاعل معهن، ففي الصحيح من حديث أنس قال: {توفي ابنٌ لـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت زينب: اذهب يا فلان فقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحضرنا -ابنها في سكرات الموت- فذهب الرجل وقال: يا رسول الله! ابنتك زينب تقول: احضر، ابنها في سكرات الموت- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً بوفود العرب، ومعه في المجلس وفود العرب يتحدث معهم في مسائل مهمة؛ عقيدة وتوحيد، إيمان وكفر ونفاق، هداية وضلال، يريد أن يدلهم على الله -فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب وقل لها: تصبر وتحتسب، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى فذهب إليها الرجل وقال: يقول صلى الله عليه وسلم: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، قالت: والله الذي لا إله إلا هو ليأتين الآن -لأنها تقول على أبيها صلى الله عليه وسلم- فذهب فقال: حلفت يا رسول الله أن تأتي، فقام عليه الصلاة والسلام وقام معه ابن عوف ومعاذ وأبي وجماعة} كوكبة مشرقة من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري

فقال صلى الله عليه وسلم: {علي بالطفل، فقدموا الطفل، فإذا نفسه تقعقع بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام، فقال ابن عوف: ما هذا يا رسول الله؟! قال: رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} ثم أتى عليه الصلاة والسلام وقبَّل الطفل وأخذت دموعه تنحدر على خد الطفل، ثم سلم زينب طفلها ودعا لها، وبعد أيام وإذا الناعي بـ زينب: حضر الموت زينباً، فحضر صلى الله عليه وسلم بنفسه، ودخل البيت مع النساء وقال: {اغسلنها ثلاثاً -قام بنفسه على مراسيم الغسل، وهذا من رحمته بابنته - أو خمساً أو سبعاً إذا رأيتن ذلك، واجعلن في الماء شيئاً من كافور وسدر، وقال: إذا انتهيتن من الغسل فآذنني}.

ثم جلس في البيت وحده، والصحابة ينتظرون عند الباب، فمن شفقته ورحمته وعطفه لم يستطع أن يبقى مع الناس، ولكن دخل بين النساء عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى الغسل أتت أم عطية، وقالت: يا رسول الله! انتهينا، فخلع الثوب الذي يلي بدنه الطاهر، وهذا من الحب والعطف والحنان

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم وما جفت مآقينا

فأخذ الشعار الذي يلي جسمه -كالفنيلة- فخلعه وقال: {أشعرنها في هذا} وأعطاهن حِقْوه صلى الله عليه وسلم، فلفوا ابنته في ذلك، ثم قام في أول الجنازة ودموعه تنحدر على لحيته صلى الله عليه وسلم، قال علي وأنس: {جلسنا حوله في جنازة زينب فأخذ مخصرة -عوداً صغيراً- وأخذ ينكت به على شفير القبر، ثم رفع طرفه، وقال: والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً}.

ثم دعا صلى الله عليه وسلم، فهذا من شفقته ومعايشته لبناته صلى الله عليه وسلم، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.

فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وجمعنا به في دار الكرامة، وأرانا وجهه، ودلنا على خُلُقه وشريعته في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

هذا شيء من معايشتة صلى الله عليه وسلم للنساء، وقد عاش صلى الله عليه وسلم كذلك أخاً، فإن أخته من الرضاعة، وقد قيل أن اسمها الشيماء بنت الحارث، أرضعته وإياها حليمة السعدية من بني سعد من الطائف، رضي الله عنهم، وسلام عليهم في أماكنهم في الطائف، فإنا نحبهم لأنهم أخوال الرسول عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم الطائف، أتت فشقت الصفوف وهي كبيرة في السن، ولا يعرفها صلى الله عليه وسلم لأن بينها وبينه مدة.

فقال الصحابة: من تريدين؟ قالت: أريد الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا: من أنت؟ قالت: أنا أخته من الرضاعة، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فقام إليها وعانقها وبكى وحياها وأجلسها مكانه، وقام يظللها من الشمس، فلما انتهى قال: {تريدين الحياة معي أو تريدين أهلك.

قالت: أريد أهلي وأطفالي، فأعطاها مائة ناقة، ثم ودعها عليه الصلاة والسلام} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].

وقد سلف أنه عاش صلى الله عليه وسلم مع النساء كذلك، وهن عمات وخالات، فقد دخل يوم الفتح عليه الصلاة والسلام عندما فتح الله عليه مكة، فلما انتهى من الفتح دخل بيت أم هانئ وأم هانئ هذه هي ابنة أبي طالب، أخت علي بن أبي طالب، وقد كانت كبيرة في السن كانت في الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم دخل بيتها لأنها ابنة عمه، وقد ارتاح لبيتها، فدخل يغتسل بعد الفتح الذي فتحه الله عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:١].

فأخذت فاطمة تستره وهو يغتسل عليه الصلاة والسلام، لم تكن أم هانئ في البيت بل كانت في الحرم، تشهد الفتح العظيم، وارتفاع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأخوها علي بن أبي طالب أتى إلى الحرم يتلفت بسيفه على ابن هبيرة أحد المشركين الكفرة، يريد أن يسقي سيفه من دمه، فأخذ ابن هبيرة هذا يختبئ وراء الناس، وأخذ علي يتلفت عليه بالسيف، والسيف مسلول في يد علي، ويحلف بمن رفع البيت بالحجب ليقتلنه ذلك اليوم، وكلما مسكوا علياً ظهر له ذلك فيعمد إليه بالسيف، فأتت أم هانئ تولول وتدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، فلما علمت أنه يغتسل تركته، فخرج من اغتساله عليه الصلاة والسلام ومعه ملحفة، فصلى ثمان ركعات خفيفة، حتى تقول: لا أدري أقرأ الفاتحة أم لا، فلما سلم، قال: مرحباً بـ أم هانئ.

ثم قالت: {يا رسول الله! ابن عمك يريد أن يقتل ابن هبيرة وقد أجرته.

فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ - مادام أنك أجرتيه فقد أجرناه- اذهب يا فلان! إلى ابن أبي طالب فكلمه}.

فأتى الرجل إلى علي بن أبي طالب وقال: أجاره الرسول عليه الصلاة والسلام، فتركه فهذه من قريباته.

وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أنا ابن العواتك من سليم} وسُليم هي القبيلة التي منها عباس بن مرداس السلمي، وخالاته وعماته أكثر ما رضعن في سليم، فلما أتت المعركة وأتى مالك بن عوف من هوازن من عتيبة، فأتى بجيش جرار كالجبال، فلما رآه صلى الله عليه وسلم وقد فر كثيرٌ من الصحابة بعد المفاجأة من قبل جيش هوازن، نزع صلى الله عليه وسلم نفسه ووثب كالأسد من على البغلة، وأخذ السيف مسلولاً وأخذ حفنة من التراب ثم رمى بها الرءوس وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عينٌ إلا دخل فيها تراب، وأخذ يقول:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

ويضرب بسيفه ويقول: {أنا ابن العواتك من سليم}.

يقول: من عنده عواتك فليخرج لنا هذا اليوم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>