[حرص السلف الصالح على الإكثار من النوافل]
ولذلك صحح العلماء أن الإمام أحمد كان يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة غير الفرائض, قال ابنه عبد الله: فلما آذاه الجَلْدُ-لما جلد في سبيل الله وفي سبيل رفعة لا إله إلا الله- كان يصلي مائة وخمسين ركعة, وكان إذا سجد ربما أعنته حتى أعيده إلى مكانه.
يقول أحد الذين جلدوه: لقد جلدته جلداً لو جلد به بعير لمات.
كل ذلك في سبيل الله.
وأول ما أخذ الإمام أحمد -وهو من الأولياء الكبار في الإسلام، رضي الله عنه وأرضاه ورحمه الله رحمة واسعة- أركبوه على فرس، قال: فحمَّلوني بالقيود من الحديد في يدي ورجلي -وسبب التعذيب أنه يريد منهج أهل السنة وهم يريدون البدعة, فـ المأمون ومن معه والمعتصم والواثق كلهم يريدون منهج الاعتزال بالقول بخلق القرآن, وهو يقول: لا -فلما أركبوه قال: خشيت أن أقع على وجهي فيتهشم وجههي، فكنت أداري نفسي على الفرس، لا يمسكه أحد إلا الله في ليلة ظلماء، وكان الجنود وراءه يضربون الفرس حتى أدخلوه في ثكنات المعتصم العسكرية.
فلما أدخل قال: أغلقوا عليَّ الباب وأنا في ظلمة لا يعلمها إلا الله, قال: فالتمست لأجد ماء، فيسر الله لي بإناء فيه ماء, فأكبر مهمة له أن يصلي في الليل نافلة, فتوضأ رحمه الله رحمة واسعة وقام يصلي حتى الفجر.
ولما أتى في الصباح عرضوا له الإفطار من مأدبة المعتصم الخليفة.
يقول الخليفة: لا آكل حتى أخبر أن أحمد أكل قبلي, فهم يعرفون أنه إمام الدنيا وفقيه المعمورة، ولذلك جعله الله إماماً، حتى إذا قيل للأطفال: أحمد بن حنبل، دخل في أذهانهم أنه إمام, قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤].
فلما عرضوا له المائدة قال: لا والله، عندي دقيق يكفيني، كان معه سويق في جراب, وكان صائماً طيلة دخوله في السجن, فإذا أذن لصلاة المغرب أخذ حفنة واحدة من هذا الدقيق -السويق- ووضعه في الماء ثم خلطه بيده ثم أكله بعد صلاة المغرب, ويبقى عليه لليوم الثاني, حتى يقال: تغاضت جفناه أو خداه من الضعف لما خرج من السجن.
ومع ذلك أخرجوه وحققوا معه وأرادوه أن يعود إلى منهج الابتداع، فرفض ولم يرض إلا منهج الإسلام ومنهج أهل السنة والجماعة , فجلدوه جلداً مبرحاً, وسلمه الله وأخرجه ورفعه رفعة ما بعدها رفعة، حتى إنه لما توفي كان الناس في جنازته، ومن كثرتهم تقطعت الأحذية، وذهب به بعد صلاة الفجر وما وصلوا إلى المقبرة إلا في صلاة العصر, وأغلقت الحوانيت في بغداد , وتوقف اليهود والنصارى عن أعمالهم, وظن بعض الناس أن القيامة قامت في يوم جنازة الإمام أحمد , حتى قال بعض المؤرخين: لم يحفظ جنازة في التاريخ اجتمع لها جمع أكثر من جنازة الإمام أحمد.
فالمقصود أن الأولياء في الإسلام إنما عَظُموا من كثرة النوافل.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة سفيان الثوري أبي سعيد، الإمام الحبر الزاهد العلامة الكبير الذي رفع الله هامته وقدره: يقولون: ذهب إلى صنعاء اليمن يريد أخذ العلم من عبد الرزاق بن همام الصنعاني العلامة الكبير, فلما وصل إليه قدم له عبد الرزاق بن همام رطباً وزبدةً، فأكل منه أكلاً كثيراً, لماذا؟ لأن الرجل صالح وطعام الصالحين فيه شفاء بإذن الله, والرجل مسافر، فلما أكثر التفت إلى نفسه، وقال: أكلت هذا الأكل! -يقول المثل وقد ذكره الذهبي: أشبع الحمار وكده، والله لا أنام حتى الفجر- فأخذ يصلي ويبكي حتى طلع الفجر.
ولذلك حفظ عن سفيان الثوري أنه من الذين كانوا يقومون الليل كله, ذكر الغزالي في الإحياء: أن من السلف من كان يقوم الليل كله، منهم: سعيد بن المسيب وسفيان الثوري والفضيل بن عياض، كانوا يقومون الليل كله, ولكن إذا عرضنا أنفسنا فأين الثرى من الثريا؟!!
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرقٍ ومغرب
لكن عزاؤنا وسلوتنا أننا نحب القوم ومن أحب القوم حشر معهم, لكن العجيب أن هناك من يبغض هؤلاء لا لشيء، يبغض الإمام أحمد، ويبغض سفيان الثوري، ويبغض عمر بن عبد العزيز , أما نحن فنقول: والله لا نقدر أن نعمل بعملهم ولا نستطيع أن نصل إلى هذا المستوى، ولكن من أحب القوم حشر في زمرتهم، فنشهد الله وملائكته والناس أجمعين أننا نحبهم في الله.
يقول سعيد بن المسيب: [[الحمد لله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعين سنة]] سعيد بن المسيب بكى حتى ذهبت عينه اليمنى, وقالوا له: لا تبكِ، رويداً وإلا سوف تذهب اليسرى, قال: [[لا خير فيها إن لم تذهب من خشية الله]].
وقيل له: [[اذهب إلى العقيق فإن فيه خضرة لعل بصرك أن يعود إليك, قال: سبحان الله! ومن لي بصلاة الدلجة؟ ومن لي بصلاة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام التي تعادل ألف صلاة فيما سواه]].
هؤلاء هم السلف الصالح الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.