للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[هدايا العمال غلول]

صح ذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

الهدية التي تقدم للعامل أو للوالي أو للمسئول من أحد الناس الذين يتمصلحون غلول، لا يقول: هدية بل هي رشوة، لولا أنه في منصبه، ولولا أن عنده شيء ما له هدية، يأتي إليه يريد أن يأخذ منه أمراً، أو بينه وبين أحد الناس نقاشاً أو خصومة في أرض، فيذهب لا يتكلم في الأرض أولاً، بل يذهب ويقول لهذا المسئول: أريد أن تشرف بيتي شرف الله قدرك، أحبك في الله حباً جماً حتى ما أنام الليل من محبتك، فيقول: ماذا حدث؟!

قال: أحبك أن تشرف هذا البيت، وهو لم يعزمه من قبل أبداً، فيأتي فإذا عزمه، قال: فلان اعتدى علي وخاصمني، وأخذ أرضي، ماذا ترى؟

ذاك ينصرف قلبه إذا لم يكن فيه إيمان كالجبال؛ لأن الناس عبيد من أحسن إليهم.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان

كان المغيرة بن شعبة أميراً في الكوفة، فجعل خادمه عند الباب، وقال له: لا تدخل أحداً من الناس إلا من آذن أنا بدخوله، فأدخل من أذن له إلا واحداً أتى عرفه فأدخله، فقال المغيرة: لماذا أدخلته؟ قال: أدخلته لأمر، قال: ولماذا؟ قال: أحسن لي يوماً من الأيام، قال: أحسنت، إن المعروف ينفع حتى في الكلب!

ولذلك قال الجاحظ وغيره: أحفظ الحيوانات للود الكلب، إذا أحسنت للكلب حفظ الود ولا ينساه، حتى يقول أحمد شوقي يهجو حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل، يقول:

فأودعت إنساناً وكلباً أمانةً فضيعها الإنسان والكلب حافظ

أي: أن الكلب يحفظ لكنه يقصد حافظ إبراهيم.

وعلي بن الجهم كان يرعى غنماً ومعه كلاب في البادية ما يعرف من الحضارة شيئاً، ما رأى في حياته قصراً ولا حديقةً، ولا رأى بستاناً، ولا رأى جسراً، ولا رأى جيشاً، فقط يرى التيس في الصباح يتصارع مع التيس، ويرى الكلب ينبح، فيظن الحضارة والإنسانية في هذا المحصول، وهو شاعر من أقوى الشعراء، وقد سبق هذا لكن بإعادته تتم الفائدة، فدخل على المتوكل يوم عيد الفطر، قال المتوكل: ماذا عندك؟ قال: عندي قصيدة؛ لأن الشعراء جميعهم يمدحون الخليفة، وكل الناس جالسون في المجلس, من حضر، قيل له: تفضل قل، قال:

أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب

فقاموا يبطشون به أرضاً، فقال المتوكل: اتركوه، هذا رجل عاش في البادية ما رأى إلا التيس والكلب وقد مدحنا بما عنده، أي: أن أقصى ما عنده قد مدحنا به، فأنزلوه سنة في الرصافة ليرى الجمال والحدائق والبساتين ونهر دجلة والفرات ثم يأتي بعد سنة.

فأنزلوه فلما رأى الحدائق، ورأى الجمال، ورأى القصور، وأكل الدجاج الطري رجع بعد سنة، فقال قصيدته اللامعة في تاريخ الأدب مطلعها يقول:

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

وأسكت الشعراء في ذلك اليوم، ثم مدح الخليفة بمدح بلغه النجم أو الثريا.

هذا علي بن الجهم، لكن ما هو الشاهد معنا؟

الشاهد: أن إسداء هذه الأمور والخدمات للناس وللعمال خاصة, معناها: رشوة، لكن استثنى الفقهاء من إذا كان بينهم هدايا من قبل، كأن يكون حبيباً له، وليس عنده معاملة ولا مشكلة ولا شيء من أمور الدنيا، فله أن يهدي له، يذهب ويعطيه ما تيسر ويأخذ هديته، أما أن يقف؛ فإذا أتت أمور من أمور الدنيا أهدى له فهي غلول، يلقى الله وقد غلها ويعيدها يوم القيامة {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:١٦١].

فهذا أمرٌ لا يغيب عن الأذهان.

أيها الإخوة الفضلاء: إن هدايا العمال غلول، والهدية للعامل رشوة {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦] فحق على أي مسئول عنده لبعض الناس مراجعة أو مداولة أو مرافعة، ألا يقبل من أي خصم خدمة من الخدمات؟

ولذلك قال في آداب القاضي: ألا يكون معزوماً عند الناس، لا يجعل بيوت الناس مقاهي دائماً، السلام عليكم يذبحون له، سوف ينصرف قلبه يوماً من الأيام.

القاضي يكون قاضياً عالماً، له هيبة وقيمة، ولا يكون خادماً يتجول في بيوت الناس ويأكل ويشرب على سفرهم، ثم يأتي في اليوم الثاني ويجالس الخصوم، ويعرف أن هذا أكرمه، وهذا ما أكرمه، حينها سوف يخفق في القضايا ويفشل فشلاً تاماً، إلا إذا كان صارماً كالسيف.

قال أهل العلم: لا بأس أن يحضر في الولائم كالزواجات إذا كان من وجوده فائدة ونفع وكان متكلماً، وكان يعظهم ويأمرهم، وينهاهم فلا بأس، أما أن يصبح سبهللاً في كل وادٍ وكل مكان، فهذا فيه ريبة وشبهة وشك والعياذ بالله، هذا أمر يتنبه له.

الرشوة في صورة الهدية: يأتون بالرشوة ويقولون: هذه هدية لك وهي رشوة، فالأسماء لا تغير المعاني، يقول عليه الصلاة والسلام: {أناس يأتون في آخر الزمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها} يتناولون المخدرات، يقولون ليست بخمر، شيء من المعطيات والتركيبات الكيميائية يسمونها: مشروبات روحية، وهي خمر، فهذه الأسماء لا تغير حقيقتها، الرشوة رشوة ولو سماها صاحبها صدقة أو هدية أو زكاة، هي رشوة.

أقسام الرشوة:

والرشوة لها أقسام: وهي هدية العمال:

منهم من يرشي العامل ويظن أنه يهدي له بالعزائم والولائم، ومنهم من يقدم له الخدمات، ومنهم من يكثر الزيارة حتى يصادقه، ومنهم من يجاوره، ومنهم من يرسل عليه أناساً.

ومنهم من يتداولون المنافع كأن يكون هذا مسئول في دائرة وذاك مسئول في دائرة أخرى، فيقول: اخدمنا في هذا المعاملة، أو أنجزنا فيها وسوف تراها -إن شاء الله- محفوظة لك عندنا.

يحفظه في مال الله، يتصرف في معاملات ومسئوليات وضعها الله في عنقه، ولن نقصر عليك إن شاء الله، فينفذ له هذه المعاملة على أن ينفذ له ذاك معاملة، فإن كان منها إضرار بالمسلمين، فهذا -والعياذ بالله- هو الغلول، وهو الرشا بالخدمات ليس بالمال, هذا أمر يعرف.

<<  <  ج:
ص:  >  >>