[الولاية بين الصحابة وأهل التصوف]
أما الصحابة فكانت طرق الولاية عندهم بالعبودية, وكانت طرق الولاية عند غيرهم ثلاث طرق: بالمواجيد والأذواق، وبالفلسفة وذو الجدل، وبالتفكير.
أما الصحابة فسلكوا في الولاية مسلك العبادة, فأقربهم عند الله أكثرهم عبادة له.
لماذا كان أبو بكر أفضل الأولياء؟ لأنه أكثر الناس عبادة, حج وجاهد، وصام وزكى، ودعا وفدى الإسلام بنفسه، ثم كان أخوف الخائفين من الله.
ولذلك جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد -وقد تكرر هذا- أنه رضي الله عنه وأرضاه كان يبكي كثيراً حتى يُرثى له, وكان يقول: [[يا ليتني شجرة تعضد وكان يقول إذا رأى الطائر يطير: يا ليتني طائراً فأطير، طوبى لك أيها الطائر! ترد الماء وترعى الشجر ثم تموت لا حساب ولا عذاب]].
ولما حضرته الوفاة قالت له ابنته عائشة: [[صدق الشاعر يا أبتي! حيث يقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: يا بنية! لا تقولي ذلك, ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:١٩ - ٢١]]] وانتقل إلى رحمة الله ولم يترك إلا ثوبه وبغلته وشيئاً من مال قليل، وكان من أتجر التجار، ولكن دفع ماله كله في سبيل الله.
هذا ما يستقر عليه التعريف، أن الولي من خاف الله واتقاه وعمل الصالحات.
ولـ أبي عثمان الصابوني كتاب في الولاية , ذكر أن صاحب الولاية: من أتى بالفرائض واجتنب المحرمات، وتزود بالنوافل، وكان سليم الصدر، حسن الخلق، قائماً قيام الليل, مجاهداً نفسه في ذات الله, عاكفاً نفسه على عبودية الله, حسن التعامل مع الناس، وكان صادقاً فهو الولي إلى آخر كلام طويل له؛ يقرر لنا فيه أن الولاية تنال بهذا.
والولي لا يشترط له لباس كما يقول ابن القيم في مدارج السالكين: فليس للأولياء لباس يخصهم, وليس للأولياء عمائم, وليس من لبس العمامة فهو ولي، ومن أتى حاسر الرأس فليس بولي, أو أن أهل الثياب البيض والغتر الحمراء أولياء, والذين لا يلبسون هذا اللباس ليسوا بأولياء, أو الحمر البلق, أو السود الذين يميلون إلى الصفرة, لا.
أو بنو فلان وبنو فلان، لا.
أو الكبار في السن، أو التجار، أو أبناء الأمراء والوزراء، لا.
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢ - ٦٣].
وابن تيمية في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى يقول: إن الصوفية - أو كلاماً يشبه هذا -يرون أن من لبس البذاذة أنه هو الولي, فيأتون بالمرقعات من الثياب الممزقة ويبقون في الزوايا ويدعون الولاية, ولذلك يقول: كم من ولي في قباء، وكم زنديق في عباء.
كم من ولي في قباء، أي: في منظر بهيج وفي حلة فاخرة, وكم من زنديق في ثياب ممزقة؛ لأن المقصد ليس الثياب.
ولذلك دخل ابن عباس رضي الله عنهما على الخوارج يوم النهروان أو قبله بيوم, والخوارج فرقة ضالة، وهم كلاب النار, أخذوا في العبادة وتركوا العلم والفقه في الدين, دخل عليهم ابن عباس يحاورهم لعلهم يعودون إلى أهل السنة والجماعة , وقبل أن يدخل اغتسل وتطيب ولبس حلة بألف دينار -أي: بعشرة آلاف درهم- فلما رآه الخوارج وكانوا يلبسون الثياب الممزقة قالوا: أأنت ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام وتلبس هذا؟! قال: أأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنا؟ قالوا: أنت, قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيته في حلة حمراء كأحسن الحلل.
فالمقصود أن الملابس والطقوس والجلسات، أو الأكل الخاص أو أنهم إذا مشوا نكسوا رءوسهم ومشوا رويداً كأنهم نملة، هذا ليس من الولاية في شيء.
[[رأت عائشة رضي الله عنها وأرضاها شبيبة بدأوا في الاستقامة، فأخذوا يتمسكنون ويتضاعفون ويتماوتون، إذا تكلم أحدهم تكلم بالهوين، وإذا سلم سلّم بالهوين, وإذا صافح مد يده لك كأنها ميتة.
فقالت عائشة: من هؤلاء؟! قال لها الناس: هؤلاء قوم نساك.
قالت: والله الذي لا إله إلا هو لقد كان عمر أخشى لله منهم، وأنسك لله منهم، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع]].
الفاروق كان يدكدك الدنيا إذا مشى، وإذا تكلم هز القلوب, والمنابر تهتز وتبكي تحت أرجله, وإذا تكلم أسمع حتى نقل عنه أنه أرسل إلى امرأة وهي حامل يريد أن يحاسبها على قضية، فأسقطت حملها -وهذا صحيح- وسأل علياً عن ذلك فقال: أرى أن فيه غرة وأن تديه فوداه رضي الله عنه وأرضاه.
وأوردوا عنه كصاحب كنز العمال وغيره، أنه رضي الله عنه وأرضاه كان يمشي أمام الصحابة في سوق المدينة فسمع جلبة, أي: صوتاً وراءه, فالتفت، قال علي أبو الحسن رضي الله عنه: والله لكأن قلوبنا نزلت في بطوننا.
ولذلك الجن خافت من عمر؛ فإذا أتى عمر من فج لم يسلك الشيطان فجه الذي يسلكه رضي الله عنه وأرضاه, كان يفرق الله به بين الحق والباطل، ولذلك سمي الفاروق.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
فلذلك ليس للأولياء أصوات غير أصوات الناس، وليس لهم لباس غير لباس الناس, ولا طعام ولا شراب، بل يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون مثل الناس.
فغلاة الصوفية لما ظنوا أنهم أولياء جلسوا في الزوايا مثل الرهبان في الصوامع، لا يبيعون ولا يشترون ولا يتزوجون ولا يمزحون ولا يضحكون ولا يلبسون, وسيد الأولياء وخير الأولياء أبو بكر اشترى السمن وباعه في السوق, ويأخذ الجمل، وينزل بحمله، ويبيع ويشتري في السوق، ويسعر رضي الله عنه وأرضاه, ويقوم على المنبر يتكلم ويضيف الناس، ويودعهم ويستقبلهم، كل هذا وهو سيد الأولياء.
فحياة ليست كحياة الصحابة ليست بحياة, وليست بولاية ولا استقامة.