[تفريغ البال]
المسألة الثانية تفريغ البال: فالقرآن لا يستقر مع هموم الدنيا، وبعض الناس يشتغل بالتوافه حتى تستولي على عقله وفكره، يفكر في الغداء وهو في صلاة الظهر، وفي العشاء وهو في صلاة العشاء، يفكر في مسائل جزئية حتى يصبح حاله شذر مذر، أمره عجيب، يذكر الذهبي أن بعض المحدثين غلب عليهم حب الحديث وأفرطوا فيه حتى ضيع عليهم الخشوع في الصلاة.
وذكر أن أحدهم قام فقال: الله أكبر -في صلاة الظهر- فرفع صوته بالقراءة وقال: حدثنا الربيع بن سليمان، وبعضهم يقرأ التحيات وهو في الفاتحة من الشواغل التي مرت عليه، ويقرأ الفاتحة في التحيات.
فهذا لا يحفظ القرآن، بل هذا له محفوظات أخرى، لذلك تجد بعض العوام يحفظ القصائد التي قيلت حتى يكاد يجمع مجلدات، يجلس في المجلس يقول: قالت قبيلة كذا ترد على كذا، وقال فلان من آل كذا يرد على فلان من قبيلة كذا، وملحمات في ذهنه، لكن إذا سألته اقرأ سورة تبت يقول: ما حفظتها، الدين يسر ويكفي الفاتحة تقوم بها الصلاة، لكن القصائد مسجلة.
وبعضهم يحفظ أرقام الهاتف غيباً وأسماء المجلات، وأسماء العواصم، والصادرات والواردات، ورؤساء الدول، ووزراء الخارجية، لكن لا يحفظ من القرآن شيئاً.
والبخاري ذكر عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته أنه قال: أردت أن أكتب لأقاربي في بخارى فنسيت اسم بعض خالاتي وعماتي، كذا ذكرها الذهبي؛ لأن البخاري توجه إلى القرآن والحديث، كتابه التاريخ الكبير فيه ألوف مؤلفة من الرجال فخدم به سنة الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ما من رجل كتبته إلا وأعرف أين ولد، ومتى توفي، وأين توفي، وكم يروي، ولذلك لما رآه أبو عبيد القاسم بن سلام وعبد الله بن الطاهر راوي الكتاب قالا: هذا سحر، لا أحد يؤلفه، وليس بسحر بل حق مبين، ولكنه من حفظه وذكائه حفظهم بينما لم يهتم بتلك الأمور فنسيها.
ولذلك بعض العلماء يحفظ كثيراً من الأحاديث بالسند، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يذكر له الحديث يقول: رواه الترمذي وفي سنده فلان بن فلان، قال فلان فيه: كذا وكذا، وهو أعمى البصر لكنه منور البصيرة: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:١٩] بصيرته حية:
إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مأثور
دروس الشيخ الآن إذا درس يقرأ عليه السند فيتحدث عن الرجل، ثم يتحدث عن من زاد في الحديث، ولذلك من يقرأ فتاويه مثل الجزء الأول مثلاً يقول: قال صلى الله عليه وسلم في حديث أوس بن أوس عند أبي داود: {أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا يا رسول الله وقد أرمت؟ -أي: بليت- قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} قال الشيخ: ولا يصح الشهداء لأنها زيادة ضعيفة.
والذي علمه هو الله؛ لأنه انتهج إلى العلم:
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم درا غير أصداف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
حياة ليست كهذه الحياة ضياع، الإنسان عمره ستون سنة وهو يحفظ أغاني، ويحفظ أرقاماً، ويحفظ أسماء لا تنفع، وقصائد وخزعبلات! فهذا خطأ، فعمرك محسوب عليك.