[بذل عثمان رضي الله عنه]
أما البذل فلا تسأل عنه، فهو من أكرم الناس يريد بذلك ما عند الله، ويشتري الجنة بماله، وله مواقف نبيلة في الإسلام لا يفعلها إلا مثله من الأخيار، وحينما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيش تبوك وهو ثلاثون ألفاً، ارتقى عليه الصلاة والسلام المنبر في شدة الحر وقال لتجار الصحابة وأغنيائهم: من يجهز جيش تبوك وله الجنة! فسكت الناس لأنه ثلاثون ألفاً يحتاج إلى إبل وخيول ومال كثير، فمن يجهزه ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة.
وكما سبق معنا أن ابن القيم قال: أنزل الله عقداً من السماء أملاه بنفسه، ووقع عليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقبض الثمن الله، أما الثمن فأرواح المؤمنين، وأما السلعة فالجنة، وأما الشاهد فجبريل، قال فبايع محمد صلى الله عليه وسلم الصحابة في مجلس العقد، فانفض المجلس والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع، فقال عليه الصلاة والسلام: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فسكت الناس، فقام عثمان وسط الناس بشخصه كأنه النجم، أو كأنه العلم وسط الناس وقال: أنا يا رسول الله! فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.
يقول: لو فعل الذنوب فإن هذه الجبال من الحسنات تأتي عليها فلا يضره ما يفعل، وهو لن يفعل شيئاً؛ لأن الله ثبته بالقول الثابت، لبذله في سبيل الله وبيعه نفسه من الله، وظمئ الصحابة فقال عليه الصلاة والسلام: {من يشتري بئر رومة وله الجنة؟}.
مشاريع الخير ليست تلاوة فقط، وليست ركعات، وليست تسبيحات، وليست صلاة ليل فقط، بل هي إيصال النفع للمسلمين، وهي أن تحيي أرواحاً، وتملأ بطوناً، وتروي أكباداً، هذا هو الإسلام قال: {من يشتري بئر رومة من اليهود وله الجنة؟} فاشتراها عثمان، فكان الصحابة يشربون من عطش ويبكون ويقولون: سقى الله ابن عفان من سلسبيل الجنة، غاب عن بدر، ولماذا غاب عن بدر؟ لأنه يمرض بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد زوجه أغلى شيء في حياته بعد هذا الدين، فمرضها فماتت، فزوجه عليه الصلاة والسلام الثانية فمرضت وماتت، وأخذ صلى الله عليه وسلم في مجلس الحزن بعد موت الثانية يقول: {يا عثمان! والذي نفسي بيده لو كان عندنا غيرها لزوجناك} ثم كناه صلى الله عليه وسلم (ذا النورين) ويستحق كل خير، وتخلف عن بيعة الحديبية والسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يفاوض كفار قريش لما أراد أن يزور مكة، فوقف له كفار قريش بالمرصاد، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من المعركة والقتل، فقال صلى الله عليه وسلم: {من يذهب يفاوض قريش؟ قم يا ابن الخطاب} يعني: عمر، فقال عمر: يا رسول الله! أنا رجل صاحب فعائل في قريش -وصدق، أي: أنا لساني وسيفي فعلت أفعاعيل، وسوف ألقى جزائي بالمرصاد، هذا معنى الكلام- وأسرتي ضعيفة يا رسول الله! فأرسل رجلاً تحبه قريش وأسرته تحميه، قال: من هو؟ قال: ابن عفان فقال عليه الصلاة والسلام: {قم يا عثمان} فقام على جمل أحمر ووصل إليهم فحبسوه في الضيافة ثلاثة أيام، وأتى الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عثمان قتل، وما قتل ولكنهم يضيفونه وتكرمه أسرته، فقال عليه الصلاة والسلام: عليَّ بالناس، فاجتمعوا جميعاً وظن أن عثمان بل تأكد أن عثمان قتل، فبايعهم على الموت، فلا حياة ولا استقرار ولا أمن حتى ينتصف من دمائهم، فلما وصل إلى بيعة عثمان قال صلى الله عليه وسلم: {وهذه عن عثمان}.
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:١٨].
وتوفي عليه الصلاة والسلام وبقي عثمان على العهد ينفق أمواله في سبيل الله، وإذا أظلم الليل وسكنت المدينة خرج وهو خليفة بالطعام على ظهره يطرق على الأيتام والمساكين والأرامل ويعطيهم الحبوب، والزبيب، والدقيق، والتمر ثم يعود يصلي إلى الفجر، يقول أحد السلف: والله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت عثمان يطعم الناس الثريد -والثريد الخبز مع اللحم- وإنه ليأكل خبز الشعير مع الزيت وهو خليفة!
كان وجهه كفلقة القمر من كثرة تلاوته للقرآن، ومن انكب على القرآن والذكر فبإذن الله بعد سنوات يكون ووجهه كالنور، لأن القرآن نور على نور: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:٣٥].
وصعد صلى الله عليه وسلم جبل أحد معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وقيل الزبير، فارتج جبل أحد والحديث صحيح، سبحان الله! من جعل الجبال ترتج لهؤلاء النفر، ولهؤلاء الجيل الذين ساروا على الأرض؟ لا أطهر منهم إلا الأنبياء والرسل، سبحان الله! من جعل جبل أحد كما في صحيح البخاري {يحبنا ونحبه} يقول سيد قطب: الله أكبر حتى الجبال تحب المؤمنين، والمؤمنون يحبون الجبال، نعم.
وبعض الجبال تكره المؤمنين والمؤمنون يكرهونها.
{جبل أحد يحبنا نحبه} وهو من جبال الجنة، وجبل عير من النار، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحب هذه الجبال لمعانٍ الله أعلم بها، وهذا قديم عند العرب حتى يقول مجنون ليلى:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
يقول يأتي إلى قرية ليلى وليست فيها ليلى فيأتي يقبل الجدران، والسكك، والحوائط لأنها سكنها يقول:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فالمؤمنون يحبون هذا، والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ أحد: {اثبت فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد} وبالفعل كان عثمان من الشهداء.