للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اللباس في السنة]

قال البخاري: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة} وهذا الحديث معلق، والمعلق هو: الذي حذف من أول إسناده رجل أو أكثر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أو إلى من دونه.

فهذا الحديث معلق؛ لأن إسناده حذف من عند البخاري، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:١٢٩] أي: لا هي بصاحبة زوج، ولا هي مطلقة.

ومر معنا أن المرأة تقول في زوجها: العشنق إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.

فالحديث المعلق هو الذي ليس بموضوع وليس بمسند، وإنما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث صحيح وسوف يأتي مسنداً.

قوله صلى الله عليه وسلم: {كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة} الإسراف: أن تبذر تبذيراً، وأن تتجاوز الحد في الإنفاق، فكل والبس وتصدق في غير إسراف ولا مخيلة.

والمخيلة: أن تأخذ هذا الشيء كبراً وبطراً.

إذاً المذموم في اللباس ما حملك على إحدى اثنتين أو عليهما: الكبر أو الترف والتبذير.

قال البخاري: "وقال ابن عباس: [[كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطِئَتْكَ اثنتان سرف أو مخيلة]] وهذا الحديث موقوف على ابن عباس، ولو أن بعض أهل العلم رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

والمخيلة من الخيلاء، وهو الكبرياء، ويستخدم في المعاني والذوات، يقال: هذا في قلبه مخيلة، ويقال في جسمه مخيلة {مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:١٨] أي: قلبه يفخر، وجسمه يختال، وهذا يحدث في المعاني والذوات، فصاحب المعاني الذي في قلبه كبر يظهر على فلتات لسانه، فتراه يقول: رحت، وذهبت، وقلت، وراجعت، ودخلت، وخرجت وصاحب الخيلاء والكبرياء في الجسم يظهر على حركاته وسكناته من جلسته وتنحنحه، ومن ذهابه وإيابه؛ لأنه عمي عن الإرشاد النبوي الشريف.

قال البخاري رحمه الله: حدثنا وكلمة (حدثنا) معلم كبير من معالم أهل السنة والجماعة، وهي متعوب عليها، وهي تربي الرجال والأجيال، حتى يقول أحد الزنادقة -كما يقول ابن تيمية -: اتركونا من حدثنا.

قال أحد العلماء: إذا رأيت الرجل يقول: اتركونا من حدثنا؛ فاغسل يديك منه.

أي: حارب الإسلام جهاراً نهاراً، وعلم ليس فيه (حدثنا) فمعناه وسوسة، وتنميق الكلام وتصنيف الحديث

العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

(فحدثنا) لا بد أن تدخل كل بيت مسلم، ولا بد أن تربي ملكتك الذهنية وأبناءك وبيتك على تذوق (حدثنا) وهي كانت عند السلف الصالح من أروع وأحسن الكلام، قالت الصوفية: نحن نأخذ علمنا من الرزاق ما نأخذه من عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ أحمد في الحديث، قال ابن القيم في مدارج السالكين: والله الذي لا إله إلا هو لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق ولا عرفتم الخلاق، ويقول غلاتهم: علمنا علم الخرق، وعلمكم علم الورق.

ولذلك إذا رأيت إنساناً يستهزئ بالسنة أو بالسيرة أو بالكتب فاعرف أنه قد بلغ درجة من البهيمية -وهذا استطراد إنما نحن عند كلمة حدثنا- والإمام أحمد يقول: إن لم تكن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث فلا أدري من هم.

وقال الشافعي: إذا رأيت محدثاً كأني رأيت صحابياً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقالوا لـ أحمد: إلى متى تطلب الحديث؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة.

فقد كان عمره فوق السبعين وهو مريض، وقد جلد في ظهره، وهو بالمحبرة ينتقل من شيخ إلى شيخ يكتب، قالوا له: تكتب، حتى الآن؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة.

قال سهل بن عبد الله التستري: حق على المسلم أن يكتب العلم حتى يصب آخر المداد في القبر.

أي: يصب عليه في القبر إذا انتهى وذكر ابن قتيبة: أن داود قال لسليمان عليه السلام: "يا بني سجل العلم وقيده في ألواح قلبك".

وأخرج عبد الله بن المبارك الإمام الزاهد الكبير العالم المحدث بطاقة وهو على زبالة، فقالوا: مالك؟ قال: مرت من هنا جارية تنشد بيتاً فسجلت هذا البيت؛ لأنه درة في مزبلة.

وبلغ من حرصهم على تصيد الفوائد الشيء المذهل، يوم كانوا يعرفون وزن العلم والفائدة، والتضحية من أجل ذلك.

قال البخاري: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم، يخبرونه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا ينظر الله إلا من جر ثوبه خيلاء} وهذا الحديث بلاغ للناس، ونظر الله عز وجل معناه رحمته وبره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي يجر ثوبه لا ينظر الله إليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>