[من بر الوالدين تقديم القربات لهما]
ومن كان عاقاً لوالديه وقد ماتا فليبرهما بعد الموت بالدعاء لهما، وبصلة قريبهما، وبالاستغفار لهما، وبقضاء دينهما،
فقد جاء في بعض الآثار: أن الرجل يموت والداه وهو عاق لهما فلا يزال يدعو لوالديه، ويستغفر لهما، ويصل قرابتهما حتى يكتبه الله في الخالدين باراً بوالديه.
وإني أوصي نفسي وإياكم يا من مات له أب أو أم: أن تقدموا لهما هدايا كل ليلة، فقد جاء في الأثر: [[ما دعا داعٍ ولا تصدق متصدق إلا أتت على أطباق من نور حتى تدفع للوالد أو الوالدة في القبر]].
وهذه آثار موقوفة على بعض السلف الصالح.
وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}.
فيا من فقد أحد والديه! تقدم إلى الله بالدعاء، وتصدق عن والديك، وحج عنهما واعتمر؛ فإنها تصلهما، وتكون لهما في القبر وعند الله ويثقل بهما الميزان، وكلما سجدت لله سجدة فادعُ لهما، فمهما فعلت فوالله لن توفِّ لهما الحق أبداً، وإنا لمقصرون.
ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- إذا سئل عن أفضل الأعمال جعل بر الوالدين هو الثاني منها.
ففي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: {يا رسول الله! ما أحب العمل إلى الله قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله}.
فبر الوالدين هو العمل الثاني الذي يلقى به العبد ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيكون مأجوراً على ذلك.
وكان عليه الصلاة والسلام يتفقد أصحابه في بر الوالدين، بل ورد في صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج ليزور قبر أمه، قال أبو هريرة: خرجنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد ماتت أمه وهو طفل.
كفاك باليتم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
خرج يتيماً؛ لكنه حوَّل العالم، وُلِد يتيماً مطروداً شريداً جائعاً ظامئاً على فاقة وفقر، ولكنه أصبح أجل إمام، وأعظم زعيم، وأنبل قائد، وأحسن رائد لقومه ولأمته، وأبرك من وجد على ظهر الأرض، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ماتت أمه وهو صغير، فلما كبر -عليه الصلاة والسلام- وأنزل الله عليه الوحي، قال: {أين قبر أمي؟} لهفة الإنسان لوالديه ولقرابته وصلة وقرب وحب وعطف، كما قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].
تشوق عليه الصلاة والسلام لأمه حناناً بها، ولذلك كما قال الأول في قرابته لما فارقوه:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم وما جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قالوا: يا رسول الله، قبر أمك على طريق المدينة، فأخذ الصحابة وذهب بهم، فدخل المقبرة، فقام يبكي عند القبر حتى بكى الصحابة.
ثم قال: {اللهم اغفر لأمي} فنهاه الله أن يستغفر لها؛ لأنها ماتت على غير الملة، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: {استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} لأن المشرك لا يُشْفَع فيه، وقد مضوا إلى ربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإنما الشاهد: حنانه -صلى الله عليه وسلم- وبره بقرابته.