[إنكار أبي بكر على الجاريتين]
{فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني} وكان أبو بكر رجل فيه حدة، حتى يقول عمر: [[كنت أراعي حدة في أبي بكر]] وقد علم الله إخلاصه وصدقه وإنابته وعبوديته، فرفعه فأصبح أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول عمر: [[لما ذهبنا إلى سقيفة بني ساعدة -لما مات صلى الله عليه وسلم- وخفنا أن يختلف الناس علينا؛ زورت كلاماً في صدري، لأخطب في الأنصار به، وخفت أن يسبقني أبو بكر؛ لأنه كان مشغولاً وما تهيأ أبو بكر، قال: فلما جلسنا أردت أن أتكلم وكنت أراعي حدة في أبي بكر، فلما أردت الحديث رفض أبو بكر رضي الله عنه واعترض على عمر قال: فتكلم فوالله ما ترك كلمة زورتها في صدري إلا أتى بأحسن منها!]] وهو من أخطب خطباء العرب على الإطلاق، ومن أنسب أنسابهم ومن أفصح فصحائهم، اسمعوا إلى الكلمة اللينة، الأنصار في سقيفة بني ساعدة هموا بالاختلاف، وسبب اجتماعهم أنهم يريدون أن يكون الخليفة من الأنصار، وسعد بن عبادة كأنه الرجل المتوج للخلافة، فكأنهم يشيرون ويلوحون ولا يصرحون بتسليم الخلافة له، فلما أتى أبو بكر اندفع في الكلام وقال: [[يا معشر الأنصار! نحن الأمراء وأنتم الوزراء، قدمنا الله في القرآن وثنى بكم، نحن أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نسباً وأقرب داراً والعرب لا تجتمع لحي إلا لحينا، ثم قال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله عنا خير الجزاء، واسيتم وكفيتم وآويتم]].
ذكر ذلك الإمام الشافعي يقول: حدثني الثقة أن أبا بكر قال في سقيفة بني ساعدة: واسيتم وكفيتم وآويتم، والله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
فلما سمعوا هذا الكلام بايعوا أبا بكر بالخلافة رضي الله عنه وأرضاه.
الشاهد هو في حدة أبي بكر، حتى يقول رضي الله عنه وأرضاه في اليوم الثاني من توليه الخلافة، الذي كان إعلاناً عاماً وخطبة عامة وبياناً عاماً للمسلمين في توليه الخلافة؛ لأنه في اليوم الأول لم يستطع أن يتكلم رضي الله عنه وأرضاه، فقد انصدع من البكاء على المنبر، تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وتذكر تلك الأيام والذكريات فما استطاع أن يتكلم، فقام عمر رضي الله عنه فتكلم كلمة أبي بكر في اليوم الأول، ومجد أبا بكر وذكر مناقبه.
وفي اليوم الثاني تكلم أبو بكر وقال: [[يا أيها الناس: إن لي شيطاناً يأتيني -وكل إنسان له شيطان- فالله الله لا أمسَّن أبشاركم]] (أي لا أضربكم) يخاف من الحدة أن ينال منهم رضي الله عنه وأرضاه.
وفي كنز العمال منسوباً إلى السير: أنه رضي الله عنه وأرضاه جاءته إبل الصدقة يريد أن يوزعها في مصارفها، فقال لرجل من الناس: لا يدخل علي أحد ثم قال: يا عمر! ادخل معي.
فدخل عمر رضي الله عنه وأما هذا الحارس فغفل، فدخل أعرابي بخطام معه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: من أدخلك؟ وأخذ الخطام وضربه، فقال: اعطني من مال الله الذي عندك، فقال أبو بكر: أستغفر الله، اقتص مني.
قال عمر: والله لا يقتص منك.
قال: لماذا؟ قال: تجعلها سنة، كلما أدبنا أحد أو عزرنا أحد قال: أقتص منكم!! لكن أعطه من المال؛ فأعطاه ناقة وأخرجه من إبل الصدقة.
تقول عائشة: {فانتهرني} أبو بكر -له أن ينتهرها لأنها ابنته- حتى في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تأخر عن الناس في صلاة العشاء فمر أبو بكر فقال: الصلاة يا رسول الله.
انظر إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم! في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه يأتي في المسجد في صلاة العشاء وينظر إلى الصفوف ممتلئة وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نعس هذا ونام هذا وخفق رأس هذا، فخرج عمر وأتى إلى باب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: الصلاة يا رسول الله، نام النساء والصبيان.
والآن بعض الناس لشدة تعامله وعنفه لا يرضى هذا الكلام، أتخاطبني وتقول لي هذا الكلام؟! من أنت حتى تناديني من عند باب بيتي؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قام وصلى بالناس، فثبت أن أبا بكر مر ببيته صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله.
فسمع حفصة وعائشة يرفعان صوتيهما على رسول الله يطالبانه بالنفقة، فقال: يا رسول الله! احث في وجوههن التراب وقم صل بالناس؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقام يصلي بالناس؛ لأنه كما وصفه الله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] بل ثبت أنه صلى الله عليه وسلم شكا إلى أبي بكر من عائشة فدخل أبو بكر وعنف عائشة وأخذ يغمزها بيده فأخذ صلى الله عليه وسلم يمنعها ويحميها، فلما خرج أبو بكر قال: {أما رأيتي كيف منعتك من أبيك؟!} صلى الله عليه وسلم.
فهنا أتى فدخل عليها فانتهرها، والرسول صلى الله عليه وسلم مضطجع، وظن أبو بكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نام، فقال: {مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم!} يقول: هذا الغناء تغنيه في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ {فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم والتفت إليه وقال: دعهما -وفي لفظ صحيح- فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا} دعهما فإن هذه مناسبة عامة، وسوف يأتي كلام مفصل عن هذه المسألة في هذه الناحية.
قالت عائشة: [[فلما غفل غمزتهما فخرجتا]] فـ عائشة كانت هي خائفة من أبيها وكذلك أرادت أن تقر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يليق بها بعد أن قال صلى الله عليه وسلم: دعهما، أن تقول: اخرجا، لكن لما غفل رسول الله صلى الله عليه وسلم غمزتهما فخرجت الجاريتان.