للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أقوال العلماء في ابن المبارك]

يقول عبد الرحمن بن مهدي: "ما رأت عيناي مثل أربعة، ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري - ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أعقل من مالك , ولا أنصح للأمة من ابن المبارك " كان يحب الأمة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام.

حب المسلمين يجري في دمه، حتى يؤثر عنه أنه قال: [[ياليت أن الله يجعلني فداء لأمة محمد]] وكان يقول لتلاميذه إذا أراد أن يرسل أحداً منهم في السفر:

إذا صاحبت قوماً أهل ود فكن لهم كذي الرحم الشفيق

ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق

يقول: حاول أن تصاحب الناس، لكن احذر دائماً أن تبحث عن أخطائهم وتعلق على نواقصهم، فإن العبد فيه نقص، وتجد بعض الناس يطلب الكمال من غيره وهو ليس بكامل، ويطلب أن يخلص الناس أنفسهم من العيوب وهو كله عيوب، مثل ما يقول ابن تيمية: "بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح" فتجده دائماً نقاداً، لا يستطيع أن يعيش مع أحد ولا يستطيع أن يصاحب أحداً، ولا يستطع أن يسافر مع أحد، ثم يوصي كذلك ببيتين آخرين وهما منهج تربوي لمن أراد أن يتعلم أدب السفر وأدب الصحبة مع الناس يقول:

وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرم

قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت نعم قال نعم

يقول: إذا صاحبت إنساناً فابحث لك عن إنسان سمح في طاعة الله عز وجل، ليس سمحاً في معصية الله، لا تصاحب رجلاً شكوساً عبوساً، بعض الناس مفطور على المخالفة، كما يقول الشريف الرضي:

مشغوفة بخلافي لو أقول لها يوم الغدير لقالت ليلة الغار

فيقول ابن المبارك: حاول أن تقول: نعم، إذا قال صاحبك: نعم، وإذا قال صاحبك: لا، فقل: لا، إلا في المعصية، هذه من مدرسته.

يقول سفيان الثوري وهو عالم الدنيا: "إني لأشتهي عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون مثله ثلاثة أيام".

كان ابن المبارك يجاهد نفسه حتى يجلس اليوم الطويل لا يتحدث إلا بطاعة، وكان يقول: [[إن عليكم ملائكة يكتبون ما تتكلمون به]] فكان يحصي كلامه؛ ماذا يقول، وكيف ينطق؛ لأنه يخاف الله.

قال ابن عيينة: "نظرت في أمر الصحابة وأمر عبد الله بن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه عليه الصلاة والسلام".

وقال سويد بن سعيد: "رأيت ابن المبارك بـ مكة فلما طاف وأتى زمزم -والناس ينظرون إليه- أخذ شربة بيده ثم استقبل القبلة وقال: [[اللهم إن ابن أبي الموالي -هذا راوي، يعرض السند على الله، لأنه يتعامل بالسند- حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن نبيك عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ماء زمزم لما شرب له} اللهم إني أشرب هذا لظمأ ذاك اليوم]].

يقول ابن عباس: [[إن سألت الله أن يشفيك به شافاك، أو يرزقك علماً غزيراً رزقك، أو مالاً رزقك الله مالاً، وماء زمزم لما شرب له]] وهذا حديث صحيح، ابن المبارك لم يطلب علماً لأنه عالم، ولا مالاً ولا رزقاً بل قال: [[اللهم إني أشربه لظمأ ذاك اليوم]] وظمأ ذاك اليوم معروف، نسأل الله أن يروينا من حوض الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الناس يكونون عطشى ويشتد بهم العطش والكرب.

ودنت الشمس من الرءوس وكثر الكرب على النفوس

واستشفع الناس بأهل العزم في راحة العباد من ذي الموقف

وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها

أما بعضهم فيضمأ فيشرب ثم يروى، ومن شرب من حوض محمد صلى الله عليه وسلم شربة فلن يظمأ بعدها أبداً، وبعضهم يبقى ظامئاً صادياً ويدخل النار وهو ظامئ، نعوذ بالله من ذلك.

قال نعيم بن حماد: [[كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء، لايجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه، كان إذا أقبل عليه سائل يرده في صدره]] يبكي لا يستطيع يتكلم وقالوا: كان إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على جهة.

أتاه تلاميذه مرة يودعونه يريدون السفر فبكى وقال:

وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات

يقول: الذي يخفف علي الحزن أنكم سوف تأتون، تغيبون وتحضرون لكن المشكلة والمصيبة من غاب ثم لم يحضر.

لكل إنسان غيبة، إلا من مات فإن غيبته لا يعود بعدها إلا في العرصات.

يقول أحد الناس وهو يودع بعض أحبابه:

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

والتهامي الشاعر الأديب كان عنده ابن مات في الخامسة عشرة من عمره، فمن شدة ولهه به وأسفه عليه وحزنه؛ دفنه في جرين البيت -في الحوش- قالوا: لماذا؟ قال: لكي لا يبتعد عني، فكان إذا أظلم الليل قام عنده وقال: يا فلان أقريب فتناجيني أم بعيد فتناديني فلم يجبه فألقى قصيدة يقول:

يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار

جاورتُ أعدائي وجاورَ ربه شتان بين جواره وجواري

طول الحياة إذا مضى كقصيرها والعسر للإنسان كالإيسار

في قصيدة طويلة مبكية، يقول: أنت جار لله، لست بجار لي، فهنيئاً لك بجوار الله.

قال أبو حاتم الرازي وهو يروي حديثاً عن ابن المبارك عن أحد أهل العلم قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو؛ فلما التقى الصفان خرج من العدو رجل فدعا إلى البراز -المبارزة- فخرج إليه رجل مسلم فقتله يعني الرومي قتل المسلم- ثم خرج رجل آخر فقتله الرومي، ثم خرج رجل مسلم فقتله الرومي الكافر، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، قال: فلما فتك هذا الرجل الرومي بالناس خرج ابن المبارك ملثماً -وكان بطلاً قوياً شجاعاً- فتبارز هو والرومي، فذبحه ابن المبارك، ثم قتل في تلك المعركة سبعة، ودخل خيمته فقال قائد المعركة: التمسوا لي من هذا؟ -وكان قد خمر وجهه حتى لا يعرف في المعركة- فذهبوا فوجدوه ابن المبارك، قالوا: القائد يريدك ليعرفك قال: [[لكن الله يعرفني]] إذا عرفني الله انتهى الأمر.

وما مصلحة أن يعرفه القائد؟ وما مصلحة الدعايات إذا برزوا في سبيل الله؟ إذا عرفه الله فكفى.

لما فتح المسلمون قندهار؟ قتل كثير من الصحابة هناك فقال عمر: [[من قتل في قندهار قالوا: قتل فلان وفلان وفلان، قال: ومن؟ قالوا أناس لا نعرفهم، فبكى عمر وقال: لكن والذي نفسي بيده، إن الذي خلقهم ليعرفهم]] فالله عز وجل يعرف الصادق من الكاذب، وهو أعرف سبحانه بأعمال عباده من غيره.

<<  <  ج:
ص:  >  >>