للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ضرورة اغتنام هذه النفحة الربانية]

العنصر الثالث: اغتنام هذه النفحة الربانية والعطية الإلهية، في حديث صحيح عنه عليه الصلاة والسلام في المسند وغيره: {أنه قام على المنبر فقال: آمين} وكان منبره صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات، وهو منبر الهداية ومنبر النور، وهو المنبر الذي أعتق الإنسانية من رق العبودية، وكان قبل هذا المنبر الخشبي أجدادنا عبدة طاغوت، ما كان عندهم إلا سيف عنترة، وصحفة حاتم، فهم ضائعون مردة.

والقوميون والوطنيون الآن يقولون: "نحن أهل تاريخ من قبل الإسلام، ما هو تاريخكم قبل الإسلام؟!

إنه وأد البنات، وعبادة الأصنام، والكفر بالله الواحد الأحد، والربا، والزنا، والغِش، والخيانة، بل يبدأ إسنادنا من منبر محمد صلى الله عليه وسلم، منذ أن وقف على الصفا وقال: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} أما قبله فلا شيء:

تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان

وهذا المنبر حنَّ لذكره صلى الله عليه وسلم لما عزله وأخذ منبراً آخر، فأخذ الجذع يبكي من الشوق واللوعة - والحديث عند البخاري - فنزل يسكِّنه ويسكِّته.

ونعود للحديث: {فارتقى عليه الصلاة والسلام المنبر، وقال: آمين، ثم قال: آمين، ثم قال: آمين} وفي رواية في غير المسند: {أنه ارتقى الدرجة الأولى فقال: آمين، ثم ارتقى الثانية وقال: آمين، ثم ارتقى الثالثة وقال: آمين} اللهم استجب.

وأحد الماجنين يقول:

يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا

{ثم قال: أتاني جبريل فقال لي: رَغِم أنفُ امرئٍ ذُكرتَ عنده ولم يصلِّ عليك - صلى الله عليه وسلم- قل: آمين، فقلتُ: آمين، ثم قال: رَغِم أنفُ امرئٍ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، قل: آمين، فقلتُ: آمين، ثم قال: رَغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان ولم يُغفَر له، قل: آمين، فقلتُ: آمين}.

أيها الناس! رمضان فرصة لا تتكرر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي} وما أحسن كلمة (لي)!

ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

فنسبتنا نحن إلى الله، فنحن أمة ربانية تتصل بالله مباشرة، فيأتي البراء بن مالك في المعركة ويلتفت إلى السماء ويقول: [[يا رب! أقسم عليك أن تنصرنا هذا اليوم، وأن تجعلني أول شهيد]] فيُقتل وينتصر المسلمون.

فأي أمة كانت؟!

إنها أمة ربانية.

ومعنى ربانية أي: أنها متصلة بالله مباشرة في قضية السؤال والاستغاثة والطلب، وأما في قضية التبليغ فيبلغها رسولها عليه الصلاة والسلام.

{كل عمل ابن آدم له} لأن عمل ابن آدم: الصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها يكتشفها الناس، فأنت تتوضأ أمام الناس، وتصلي مع الجماعة، وتزكي على مرأىً ومسمع من الناس، لكن الصيام من يدري عنك إذا تسترت بالحيطان، هل يكتشفك أحد وأنت بين الجدران؟ قد تشرب ماءً أو تأكل وجبةً، ولا يدري عنك إلا الله.

فالصيام سر بين العبد وربه: {كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدَع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي} من أجل الله الواحد الأحد: {للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه}.

وفي الحديث: {ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} سبحانك اللهم! ما أجمل هذه العبارات! خلوف فم الصائم الذي يخرج من آثار الجوع أطيب عند الله من ريح المسك! وهذا تشريف للصائمين، ولا يناله إلا الصُّوَّام.

وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن في الجنة باباً يُدعى: الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل أحد غيرهم} والريان للصائمين فقط يدخل منه من صام في الحياة الدنيا وجاع وظمئ لمرضاة الله تبارك وتعالى.

وقد سبق معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الصحيح: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين -وفي رواية-: مردة الشياطين} أما الذي يصاحب العبد فهو معه، أما الشيطان المارد الغاوي فيصفد ويغل فلا يتحرك.

ولذلك تجد السيئات والجرائم تقل في رمضان، وتجد كثيراً من الناس أقبلوا زرافاتٍ ووحداناً إلى المساجد يحملون المصاحف، يبكون ويندمون ويحافظون على الجماعات، وهذا طيب جميل لو أنه يستمر، لكن بعضهم يخلع جلباب الحياء يوم العيد على المسجد ويقول: إلى لقاء آخر في رمضان آخر، وهو لم يفعل شيئاً، وقد أساء كل الإساءة.

فإن رب رمضان هو رب شعبان، ورب شعبان هو رب رمضان، والأيام أيام الله كلها، وهو الواحد الأحد الذي يعلم السر وأخفى.

فهذه النفحة الربانية التي في رمضان قد لا تتكرر، والعمر -يا أيها الإخوة- غال عند المؤمن، ولكنه رخيص عند الفاجر.

فهذا الفاجر المعرض عمر الخَيَّام شاعر الغزل والمجون، وليته غزل فحسب لكن مع إلحاد، يقول في قصيدة له تغنَّى وتنشر في أشرطة الكاسيت على أصحابها من الله ما يستحقونه:

لبستُ ثوبَ العمر لم أسْتَشَر وحُرْتُ فيه بين شتى الفكر

يقول: ما استشارني الله يوم خلقني، لا إله إلا الله! أيستشيرك يا حشرةً يا رِعديد؟! {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:١ - ٢].

إن الإنسان لا شيء قبل أن يخلق، وإنما هو مضغة أو قطعة لحم فإذا خلق لا يعلم شيئاً، ويسقط على الأرض قطعة لحم يحركها الله بالروح الذي ينفخها في هذا الإنسان، ثم يأتي هذا الإنسان يطلب من الله أن يشاوره قبل أن يخلقه ويفاوضه ويطلب منه: هل ينزل من بطن أمه أم لا؟

ولذلك أبو العتاهية يتكلم في هذه القضايا يقول: الطفل ينزل باكياً من بطن أمه؟ لأنه جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: {ما من مولود إلا ونزغه الشيطان إلا مريم وابنها عليه السلام} فأول ما ينزل الطفل يبكي، هل سمعتم طفلاً يضحك، حتى طفل الأنبوب ما سمعنا ذلك، حتى الطفل الذي نشر في فنزويلاَّ أنه يتبسم كان خرافة، بل أول ما ينزل الطفل يبكي:

ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

فهل تعلم ماذا يفعل -عليه الصلاة والسلام- بالطفل؟ أول ما يفعل به -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي إليه ويؤذن في أذنه، لا موسيقى أو صياح الهلوسة أو فلسفة المجانين والمعرضين عن الله، بل يقول في أذنه: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثم يتلو عليه كلمات التوحيد فتدخل هذه الكلمات حية إلى القلب مباشرة فتتمكن في السويداء، وهو مولود على فطرة التوحيد، ويأتي الأذان ليزيد التوحيد توحيداً: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠] لكن علماء النفس المهلوسون يقولون: "إذا ترجرج الطفل فأعطِه موسيقى فإنه يهدأ" هل نسمعه موسيقى يا أعداء الله؟! سوَّد الله وجوهكم!! إنهم يريدون موسيقى في بلاد الإسلام، أما نحن فعندنا: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:١ - ٢] وعندنا صحيح البخاري وصحيح مسلم.

ما افتُتِحت المستشفيات النفسية إلا بعد القرن السابع، في باريس وواشنطن، فلم يكن عندنا مستشفيات نفسية بل كان عندنا أوراد وأذكار وتسبيح وماء زمزم، وعندنا سجدات ودعاء، فندعو الله فيصلح -إن شاء الله- الحال؛ ولكن لما أتى ديكارت وكانت قالوا: "الموسيقى تهدئة"؛ وذلك لأنهم لا يعرفون معنى الحياة، ويتعاملون كالدواب؛ لأن الفِيَلة أصبحت في البرازيل ترقص على الموسيقى، والجِمال في السويد تلعب، فتجدها إذا سمعت العود تبدأ تراوح بين أرجلها لاعبة فأصبحوا مثلها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>