للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نموذج على محبة الخلفاء للشعر]

كان الخلفاء يحبون الشعر ويتذوقون الشعر، وكان الناس خطباء، وكان خلفاء الأمة خطباء وعلماء، يتذوقون هذا الأدب.

خرج أبو جعفر المنصور هذا الملك الجبار، ملك جبار، يقول فيه الإمام أحمد: رحم الله ابن أبي ذئب قال كلمة حق عند أبي جعفر، وأبو جعفر أبو جعفر!

كأنه يقول: من يستطيع أن يقول كلمة الحق عند هذا الجبار؟!

قتل من الملوك أكثر من ثلاثين، وقتل الوزراء وقتل أعمامه الذين هم إخوان أبيه، ولذلك دخل عليه ابن أبي ذئب، قال أبو جعفر: أسألك بالله يا ابن أبي ذئب، أنا عادل؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين، أي سامحني هذه المرة، قال: لا والله، قال: أسألك بالله أنا عادل؟ قال: والذي لا إله إلا هو إنك ظالم، ثم خرج.

ودخل عليه ابن السماك الواعظ، فقال: ناولني الدواة، أي دواة الحبر، يقول أبو جعفر لـ ابن السماك: ناولني، قال: لا أناولك، إن كنت تكتب ظلماً أشترك معك في الظلم، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك، فأراد أن يستهزئ به، فوقع ذباب على أنف أبي جعفر، ففعل بالذباب هكذا، فاختفى ثم عاد، قال: يا ابن السماك لماذا خلق الله الذباب؟

يعني: ما الفائدة من الذباب؟

هل منه فائدة؟

هل يحلب أو يذبح أو يؤكل أو يطبخ؟

ما الفائدة من الذباب؟

قال: يا أمير المؤمنين! خلق الله الذباب ليذل به أنوف الطغاة.

فهو لا يقع إلا على أنف الطاغية، قالوا: فخجل أبو جعفر واحمر وجهه.

وخرج مع الشعراء، فقال: من يكمل لي بيتاً أعطيه بردة الرسول صلى الله عليه وسلم التي علي، وبردة الرسول صلى الله عليه وسلم تشترى بالدماء لا يلبسها إلا الخلفاء، قال الشعراء: ما هو البيت؟ قال:

وهاجرة وقفت بها قلوصي يقطع حرها ظهر المطايا

معنى البيت: يقول: هاجرة -شدة حر- وقفت بها ناقتي، وحرها يقطع ظهور الإبل، فقام الشعراء على ركبهم أيهم يسبق لأخذ الجائزة، فقال بشار بن برد الشاعر العجيب قال:

وقفت بها القلوص ففاض دمعي على خدي وأبصر واعظايا

فرمى بالبردة عليه، فاشتراها الناس منه، وبشار هذا كان أعمى، وهو الذي يقول:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا

يا ليتني كنت تفاحاً مثلجة أو كنت من ثمر الريحان ريحاناً

وهو الذي يقول:

إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم

فأتاه رجل فوجده كالثور من ضخامة جسمه، فقال: أنت الذي تقول:

إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم

قال أما يقول الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:٢٢٤ - ٢٢٦].

<<  <  ج:
ص:  >  >>