[غناء الأنصار يوم بعاث]
{فدخل صلى الله عليه وسلم فاضطجع وحول وجه إلى الحائط} ترك المغنيتين وترك عائشة ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يستمع، فحول وجهه صلى الله عليه وسلم إلى الحائط، وواصلت المنشدتان تغنيان بغناء الأنصار يوم بعاث، وهو مكان حول المدينة حدثت فيه معارك رهيبة بين الأوس والخزرج، والله يمتن على الأوس والخزرج وعلى غيرهم فيقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٦٣].
لقد كانوا متناحرين ومتباغضين وهم كلهم من الأزد وهم أبناء عم، لكن أورث الشيطان بينهم حقداً حتى قالت عائشة: وكان يوم بعاث يوماً الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
وذلك أن من حكمة الله قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أو يهاجر إلى المدينة تقاتل الأوس والخزرج فسفكوا عظماءهم جميعاً، وبقي الشباب وبعض الشيبة، ولو بقي هؤلاء العظماء ما قبلوا الإسلام، فالله عز وجل مهد هذا اليوم فصفي فيه الحساب بينهم، قتل فيه رئيس الخزرج عمرو بن النعمان وكذا رئيس الأوس حضير والد أسيد وهو من الأوس، وقتلت فيه الأسر الشهيرة حتى قدم صلى الله عليه وسلم وأكثرهم شباب، فتقبلوا هذا الدين وعاشوا معه وأخلصوا له.
وكان اليهود إذا أرادوا أن يحركوا الضغينة فيما بين الأنصار أو يوقدوا نار الفتنة ذكروهم بيوم بعاث، فإذا سمعوا يوم بعاث فكأنها النار أشعلتها بوقود.
حتى أن شاس بن قيس وهو تاجر يهودي خبيث أتى في المسجد والأنصار جلوس فغاظه أنهم مجتمعين، الأوسي بجانب الخزرجي إخواناً متحابين في الله عز وجل، ألف الإسلام بينهم، يتضاحك بعضهم إلى بعض في إخاء ما شهد التاريخ مثله، فأتى اليهودي فجلس بجانبهم وقال لرجل من الأوس: ماذا يقول شاعر الخزرج يوم بعاث؟ قال: يقول كذا وكذا.
قال للخزرجي: ماذا يقول شاعر الأوس يوم بعاث؟
قال: يقول كذا وكذا؛ فأخذتهم النعرة والحمية، فقام ابن الأسلت وحسان فأنشدوا شعراً كل يسب قبيلة الآخر، فنادى رجل من الأوس: يا معشر الأوس! السلاح السلاح -وهذا أورده ابن جرير في تفسيره - فأخذوا السيوف وقالوا: موعدنا الحرة وهي ضاحية في المدينة، يريدون أن يصفوا الحساب مرة ثانية، والغضب قد دخل رءوسهم، والشيطان قد وسوس لهم حتى نسوا تعاليم الدين، فقاموا وأخذوا يتنادون بالسيوف.
والأنصار من أشجع الناس، حتى قتل منهم في معارك الإسلام (٨٠%) وما مات منهم موتاً إلا (٢٠%) حتى يقول حسان:
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
وكان بعض الأنصار إذا لقي المعركة؛ فقد شعوره كـ البراء بن مالك، حتى قال عمر: [[لا تولوه المعركة؛ فإنه سوف يحطم المسلمين حطماً]].
ومن الأنصار أبو دجانة كان إذا أتت المعركة أخرج عصابة حمراء وعصب رأسه؛ فقال الناس: افتحوا لـ أبي دجانة طريقاً فقد أخرج عصابة الموت.
فخرجوا رضوان الله عليهم، فصف الأوس في صف، وصف الخزرج في صف وسلوا السيوف، وأتى الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، وإذا الصائح يصيح وإذا البكاء يرتفع، وقالوا: يا رسول الله! أدرك الأوس والخزرج لا يقتتلوا هذا اليوم.
قال: ولم؟ قالوا: أوشى بينهم شاس بن قيس حتى ورث بينهم الضغينة، وقد تواعدوا في الحرة الآن؛ فقام صلى الله عليه وسلم حافياً، فما انتعل من السرعة، خرج يجر إزاره، ومعه أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين، حتى وقف صلى الله عليه وسلم بين الصفين، فذكرهم بالله واليوم الآخر، وقال: ألم آت وأنتم ضلال فهداكم الله بي؟ متفرقون فجمعكم الله بي؟ ثم ذكرهم حتى بكوا، ثم تركوا السيوف وتعانقوا وهم يبكون فأنزل الله في ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:١٠٣]
فلما سمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم كأنهم سمعوه لأول مرة:
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
فتعانقوا والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، وعادوا إلى المدينة إخواناً متحابين، فهذا الموقف على ذكر يوم بعاث الذي ذكرته عائشة.