للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأمير يتتبع حياة العابد الفقير]

خرج علي بن المأمون -ابن الخليفة العباسي المأمون - من قصره على شرفة القصر، فأشرف من شرفات القصر -البروج العاجية- ذات يوم ينظر إلى سوق بغداد طعامه شهي، ومركبه وطي، وعيشه هنيء، يلبس ما جمل، ويأكل ما طاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته، فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب وهذا يأتي، ولفت نظر الأمير رجل حمال، يعمل للناس بالأجرة، ويظهر على هذا الجمال الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحِمْل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان، فأخذ يتابع حركاته في السوق، فكان الحمال إذا انتصف الضحى ترك السوق، وخرج منه إلى ضفاف دجلة، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم:

سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا

يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا

سبحان الذي اتصل به الفقراء والمساكين!

سبحان من التجأ إليه المظلومون والمضطهدون!

سبحان من عرفه البسطاء، وحجب كثير من الأغنياء والوجهاء!

عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف وبيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.

فأخذ الأمير ينظر إلى هذا، فإذا صلى الحمَّال الضحى، عاد فعمل إلى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبل كسرة الخبز في الماء، ويشرب من الماء، ويأكل الخبزة، فإذا انتهى توضأ لصلاة الظهر وصلى، ثم دعا وابتهل وبكى، ونادى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم يستيقظ وينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته، وفي اليوم الثاني يعود إلى هذا البرنامج والجدول ولا يتغير عنه وكذلك في اليوم الثالث والرابع إلى أيام كثيرة، فأرسل الأمير جندياً من جنوده إلى ذاك الحمال ليستدعيه وليكلمه في القصر، فذهب الجندي واستدعى الحمَّال.

قال للجندي: ومالي وملوك بني العباس؟ مالي وللخلفاء؟ ليس بيني وبين الأمراء من صلة، ليس لي قضية ولا مشكلة ولا مهمة، إن أشكل علي شيء رفعته إلى الحي القيوم، وإن نابني شيء أعدته إلى الله الواحد الأحد، وإن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت أرواني الله، ما عندي لا دار ولا عقار ولا أرض، أنا بالله وبالله أنا.

قال الجندي: أمر الأمير أن تحضر إليه اليوم فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذه الكلمة هي سلاح الفقراء، والمضطهدين والمظلومين، وسلاح المساكين، لكنها تكسِّر رءوس الطغاة، وتحطِّم الحواجز الحديدية، وتسحب القلاع.

أتي بإبراهيم عليه السلام والنار محرقة، فزجوا به في النار، فأخرج سلاحه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلب بنعمةٍ مِنَ الله وفضل.

موسى عليه السلام خرج هو وقومه فإذا البحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فَنَجَّاه الله.

حضر محمد صلى الله عليه وسلم حضر بدراً، وأحداً، والأحزاب، وتبوك وأمثالها وأضرابها في قلة، فرأى الكفر يزدحم، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانتصر.

أتى خالد بن الوليد في اليرموك فرأى جيوش الروم كالجبال! والصحابة في فئة قليلة، يقول أحد الصحابة لـ خالد: اليوم نلتجئ إلى سلمى وآجا -أي: يقول: سوف نفر اليوم من هذا الحشد الكبير إلى سلمى وآجا - وهي جبال في حائل، فدمعت عينا خالد، وقال: [[بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل!]] فانتصر.

وسعد رأى فارس ورأى الكفر والعمالة والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رءوسهم بأقدامه، وقالها صلاح الدين، وقالها المجاهدون الأفغان.

أتت روسيا بقواتها وطائراتها وسلاحها ودباباتها وصواريخها، فخرجوا بسلاحهم من بيوتهم متوضئين مصلين، قال لهم الناس: التجئوا إلى نيويورك إلى واشنطن قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالوا: إلى القوة العالمية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالوا: إلى الدول وإلى العواصم، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٤].

<<  <  ج:
ص:  >  >>