افي يوم بدر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يخرج بالأنصار إلى كفار قريش، فلما نزل صلى الله عليه وسلم قريباً من بدر، مكث عليه أفضل الصلاة والسلام هناك، وقال يستشير الناس:{يا أيها الناس ماذا ترون؟} أي: في لقاء الأعداء، والسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد كلمة الأنصار؛ لأنهم عاهدوه يوم العقبة أن يمنعوه مما يمنعوا منه نساءهم وأطفالهم، لكن العجيب! أن المتكلم كان من المهاجرين والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد المهاجرين أن يتكلموا، فقام المقداد بن عمرو فتكلم بكلام قوي، قال:[[يا رسول الله! والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون]].
فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قال:{أيها الناس! ماذا ترون؟ -يريد الأنصار- فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كأنك تريدنا؟ قال: أجل.
قال: يا رسول الله! صدقناك وبايعناك وآويناك، والله ما أخذت من أموالنا فإنه أحسن مما تركت، فاقطع حبل من شئت، وصل حبل من شئت، وحارب من شئت، وعاهد من شئت، والله! إننا لصبر في الحرب، وصُدُّق عند اللقاء، والله لو استعرضت بنا البحر ما تأخر منا رجل واحد، وعسى الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: سيروا وأبشروا؛ فإن الله وعدني بإحدى الطائفتين، إما العير وإما الرجال والنصر}.
هذا موقف سعد بن معاذ ولذلك رفعه الله بصدقه في هذه المواقف.
سعد بن معاذ شهيد الإسلام رفعه الله بموقف ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء: أن سعداً رضي الله عنه لما مات أُصيب بسهم في الأكحل، فأنزله صلى الله عليه وسلم في خيمة في المسجد وأتى يعوده، فقال سعد ينادي الله عز وجل:[[اللهم إن كنت لا أبقيت حرباً لرسولك صلى الله عليه وسلم مع اليهود فابقني لهم، وإن كنت أنهيت الحرب مع اليهود فاقبضني إليك]] فاندثر عليه الجرح وسال الدم، وحضر صلى الله عليه وسلم مراسيم وفاته، قالت عائشة رضي الله عنها -وهذا ثابت-: [[والله إني كنت أسمع بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بكاء عمر وأبي بكر وأنا وراء صائر الباب]] وحضر صلى الله عليه وسلم حتى تغسيله وكان يكف صلى الله عليه وسلم ثيابه، ويقول الناس: لماذا يا رسول الله؟ قال:{والله ما رأيت موقع قدم إلا وفيه ملك حضر جنازة سعد رضي الله عنه} ولما توفي -وهو حديث حسن بطرقه- اهتز له عرش الرحمن سبحانه وتعالى، وأن الملائكة حفت بالعرش تقول {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[الإخلاص:١ - ٤].
ولذلك يقول حسان في قصيدته الرائية في الديوان:
وما اهتز عرش الله من فقد هالك سمعنا به إلا لموت أبي عمرو
يقول: حسان بن ثابت ما سمعنا أحداً اهتز له عرش الرحمن إلا لـ سعد أبي عمرو رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك جلس الأوس والخزرج -قبيلتا الأنصار- يتفاخرون على سبيل الدعابة والمزاح، قالت الأوس: عددوا لنا مكارمكم يا معشر الخزرج! قال الخزرج: منا أربعة حفظوا وجمعوا القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنا فلان الذي فعل ومنا الذي غسلتَّه الملائكة، فلما انتهوا؛ قالت الأوس: لا نباريكم إلا بواحدة: منا الذي اهتز له عرش الرحمن، وهو سعد رضي الله عنه.
وثبت أنه شيَّعه من الملائكة سبعون ألف ملك، مضوا في جنازته رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو الرجل الذي صنعه الإسلام والقرآن، وما قصدنا من ذكر هذه الأمثلة والشواهد، تضييع الوقت والتسلية، ولكن لنرتفع بأرواحنا أو نحبهم على الأقل؛ فإن المرء يُحشر مع من أحب، فإذا لم نستطع أن نفعل كما فعلوا أو نصنع كما صنعوا؛ فلنحبهم في الله عز وجل، ولذلك بلغ بهم النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين أن قدموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حب آبائهم وأمهاتهم.