[استقبال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم]
الصحيح عند كثير من أهل السير والمحدثين أن الأطفال والجواري استقبلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: (طلع البدر علينا) يوم أتى من تبوك لا من الهجرة، وبعضهم يرجح ذلك ويميل إلى هذا.
وكان إذا أقبل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسرع السير عليه الصلاة والسلام، وقال للناس: {إني متعجل، فمن شاء منكم أن يتعجل فمعي، ومن شاء أن يتأخر} يسمحهم لأنه القائد الأعلى، وأخذ يقول: {آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون} وسمعت المدينة، فخرجت بأطفالها وفلذات أكبادها، والجواري على أطراف السكك والطرقات، يستقبلون معلم الخير، الأب الحاني، المربي الكبير، الذي جعله الله رحمة لكل إنسان.
حتى الكافر هو رحمة له، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:١٠٧] (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:٣٣] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:١٢٨] وانطلقت الهتافات:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وأخذ صلى الله عليه وسلم يستقبل الأطفال، وتسابق الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير إلى ناقته عليه الصلاة والسلام، فجعل أحدهم أمامه والاثنين خلفه، تركوا آباءهم، وأتوا إلى أبيهم الحقيقي المعلم الأكبر صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب: فلما أفل إلى المدينة زاح عني الباطل، والحجج والحيل التي لا تنفع، أي: تلاشت، لم يبق إلا الصدق قال: فأجمعت صدقه.
يقول: قلت في نفسي لا يمكن أن أخرج إلا بكلمة صادقة، قال: فكان عليه الصلاة والسلام يبدأ بالمسجد، فيصلي فيه إذا دخل ضحى، قال فبدأ عليه الصلاة والسلام بالمسجد.
ترك أهله ليستقبل بيت الله عز وجل، وليتفاءل بركعتين تقربه إلى الحق، وهو أقرب الناس إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فدخل عليه الصلاة والسلام، ونزل وخلع السلاح عنه، وصلى ركعتين، ودخل البواسل من جنود أبطال الإسلام، أهل الفتوح، الذين تركوا اسم الله مرفوعاً بسيوفهم:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم مناراً
فصلى عليه الصلاة والسلام وأخذ الناس يسلمون عليه، والمنافقون الذين تخلفوا ما يقارب الثمانين منافقاً، لكن الثلاثة صادقون الذين خلفوا، جلس عليه الصلاة والسلام، هذا يسلم ويذهب قال كعب بن مالك: فتقدم المنافقون فاعتذروا، فعذرهم صلى الله عليه وسلم، فيقول هذا: أنا مرضت يا رسول الله، ويأتي الآخر ويقول: أصابني زكام وقت الغزوة، فيقول له: اذهب وذاك يفعل، وكلها كذب، حتى يقول الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣].
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لماذا لم تصبر قليلاً؟ فقال الله: عفا الله عنك، حتى يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إذا سكت القارئ وقال: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣] علم النبي عتاب الله له، وعلم أن الله قد عفا عنه؛ لذا قدم العفو على العتاب حتى لا يخاف عليه الصلاة والسلام، لكن تلطَّف الله وروَّح عن رسوله صلى الله عليه وسلم {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣].
لكن أذن لهم صلى الله عليه وسلم، فهو معفو عنه، فلما أذن لهم خرجوا يتضاحكون، فأهل الباطل يفرحون بباطلهم، يكذبون ويفرحون، فيقولون لأسرهم وعشائرهم: ألا ترون إلى جدلنا وإلى قوة حجتنا، خرجنا من بين يديه، اعتذرنا بكذب وصدقنا.