وقد تكررت له صلى الله عليه وسلم هذه المعجزة في أكثر من مرة، فيخبر بموت أناس في نفس اليوم الذي ماتوا فيه، ففي الصحيحين عن أنس وابن عمر وعائشة قالا:{لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في معركة مؤتة، أخبر عليه الصلاة والسلام بهم في ذلك اليوم وهو بالمسجد، وكان يتكلم للناس، وجلى الله عز وجل له المكان فكان ينظر إلى المعركة ويحدث الناس عن المعركة حركة حركة وسكنة سكنة، فيقول: أخذ الراية الآن زيد فقتل، ثم انتحب صلى الله عليه وسلم قال: أخذها جعفر وقتل، ثم أخذها ابن رواحة فقتل، ثم جمع صلى الله عليه وسلم الناس وقام خطيباً على المنبر فحدثهم بقصة قتلهم في سبيل الله، ثم قال: رأيتهم عرضوا علي وقد أدخلوا إلى الجنة على أسرّة، وفي سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً لأنه تلبث قليلاً} رضي الله عنه، وكان صائماً آنذاك وقد دنت الشمس إلى الغروب، وأراد أن يفطر بشيء لكي يتقوى به في المعركة فسمع الدعاء من أطراف الصفوف -لأنه الأمير الثالث- وقالوا: حي هلاً يـ ابن رواحة! خذ الراية فتلعثم لا يدري هل يأكل شيئاً ليتقوى به في سبيل الله أو يقدم على الموت، فأخذ عرقاً من لحم فلاكه فما وجد له طعماً لأنه يسمع السيوف تتكسر، والرماح تسقط على رءوس الأبطال، ويسمع الناس في غمغمة، وقد قتل القائدان المقدامان جعفر وزيد، فنزل -وكان شاعراً رضي الله عنه- وأخذ سيفه فسله وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم تقدم فأخذ الراية فقتل مع الغروب رضي الله عنه، وأما جعفر فإنه استمات في سبيل الله وقد تقدم بالراية وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
فضربت يمينه حتى قطعت، فأخذ الراية بشماله فقطعت، فضم الراية إلى صدره بعضديه فكسرت الرماح في صدره فهوى شهيداً في سبيل الله، فأبدله الله جناحين يطير بهما في شجر الجنة من شجرة إلى شجرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:١٦٩ - ١٧١].
وأما زيد فكان قائدهم في أول المعركة فقتل رضي الله عنه، وهو من الشهداء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، الشهداء منهم من كلمهم الله كفاحاً كما في الحديث الصحيح الذي استحسن سنده ابن كثير:{أن الله جمعهم فقال: تمنوا علي قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنوا قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد الجنة فتشرب من مائها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.