للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الألفة والتآخي بين المسلمين]

في الحديث الصحيح: {كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع أصحابه في المسجد، فقال: يخرج عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فخرج رجل حذاؤه في يده اليسرى، ولحيته تتقاطر بالماء، فصلى ركعتين، وفي اليوم الثاني أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهكذا في اليوم الثالث، فذهب معه صحابي وقال: أريد أن أبيت معك هذه الليلة، فبات معه، فوجد صلاته كصلاة الناس، وعبادته كعبادة الناس، وذكره كذكر الناس، فبعد ليلتين قال: ما أردت إلا أن أرى عملك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنك من أهل الجنة، فماذا كنت تعمل؟ قال: ما أنا بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن والله ما نمت ليلة من الليالي وفي قلبي غش أو غل أو حقد على أحد} هي القلوب التي وعت لا إله إلا الله فصلحت.

في الأعياد نرى كثيراً من القرى لا يزور بعضهم بعضاً بسبب قطعة من الأرض، أو بسبب مجرى ماء، أو بسبب طريق أو شجرة، أو مبلغ زهيد من المال؛ لأن (لا إله إلا الله) لم تتمكن من القلوب، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:١٠٣]

إن من أعظم إبداعاته في الرسالة ومن روعته في منهجه، يوم أتى بتأليف القلوب في الأرض، الله تعالى يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٦٣] يقول أحد المفكرين العصريين -وهو معروف صاحب تاريخ رجال من التاريخ - يقول: نحن العرب مثل قرون الثوم، إذا كشفت القرن ظهر لك قرن آخر، والناس في القرى والقبائل -عموماً- كل يريد الزعامة على الآخر، وكل يريد أن يكون له الحق والتقدمة، وعندما أتى صلى الله عليه وسلم، لم يكن للعرب مُلْك ولا رئاسة ولا إمبراطورية، كلهم فوضى، فأتى بالبسمة الحانية، وبالمعانقة، والبشاشة، وبالقول اللين حتى جمعهم، قال الله عنهم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٦٣] يقول أبو تمام:

إن يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد

أو يفترق نسب يؤلف بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالد

هذا الدين أتى بـ بلال من الحبشة وهو عبد رقيق، فأدخله في الإسلام فيصبح سيداً من السادات، وأبو جهل كان يَعُدُّ بلالاً لا يساوي فلسين، وكأنه مثل الدابة تماماً، فلما أسلم بلال أصبح سيداً من السادات، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {دخلت الجنة البارحة فسمعت دف نعليك يا بلال! فماذا كنت تصنع؟ قال: ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت ركعتين} هنيئاً لـ بلال الجنة!

يقول ابن القيم في كتاب مدارج السالكين، قيل لـ سلمان الفارسي: [[مَن أبوك يا سلمان؟ قال: أبي الإسلام.

قيل: ومَن هو إمامك؟ قال: محمد.

قيل: وما هو بيتك؟ قال: المسجد.

قيل: وما هي عصاك؟ قال: التوكل.

قيل: وما هو زادك؟ قال: الزهد]].

{دعها فإن معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر، حتى يلقاها ربُّها} سلمان الفارسي كان فارسياً، لكن رفعه الله بالتوحيد والإيمان، جلس مع أسر عربية تفتخر بالقبائل، وهذا من عيوبنا أن نقدس الناس بحسب أعراقهم وأنسابهم، لا على حساب الدين، والله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:١٣] ونحن نقول: أكرمنا فلان بن فلان، ويتمادح كثير من الناس في المجالس، بأنه ذبح أنفساً معصومة، والله عز وجل قد ذكر ذنب قتل النفس، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل امرئٍ مسلم، لكبهم الله في النار على وجوههم} وصحح مثل هذا الألباني وغيره وقال: {ولزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم} لأن بعضهم يقول: قتلت عشرة، وبعضهم قتل عشرين ويخبر بدستوره الأسود في الجاهلية، ولو أنه تاب واستغفر؛ لكان خيراً له عند الله عز وجل، قيل لـ سلمان: من أبوك؟ قال:

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

أبي الإسلام، أنا عشت لهذا الدين , وأموت لهذا الدين، وهذه حياة المؤمن التي يريدها الله عز وجل، أما هذه البغضاء الحالقة، كما يقول عليه الصلاة والسلام: {لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين} وفساد ذات البين من أشر ما يمكن، وهو الذي يهدم الجماعات، ويشتت الأسر، ويقطع البركة، ولعل من يتدبر القرآن ويسأل الله الثبات يهديه سواء السبيل، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٤].

<<  <  ج:
ص:  >  >>