للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بيان عن توحيد الألوهية]

وأيضاً هنا بيان للناس، وهي سلسلة سوف تصدر إن شاء الله في وريقات، عل الخطباء أن يقرءوها، أو يستفيدوا من الكتب التي استفدت منها.

وهذا خطاب بعنوان: هذا بيان للناس، غالبه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب توحيد الألوهية، وهو الجزء الأول من الفتاوى، ولكن لما رأيت من عظم كلامه، ولما جعل الله له من نفع، ولحاجتنا في هذه المرحلة وبعدها إلى هذا الكلام، ولما يوجب علينا النصح؛ أحببت أن أنقل جملاً، وأن أربط بعضها ببعض، ولو أني غيرت في بعض الأسلوب؛ لأن أسلوبه عالٍ لكثرة علمه، ولاتساع بحره، ولجلالته، فأحببت أن أذكر جملاً بأسلوب مفهم ومبسط عل الله أن ينفع به.

بعد الحمد لله والصلاة والسلام على الرسول عليه الصلاة والسلام.

اعلموا أيها المسلمون أن من أعظم ما يجب على المسلم أن يعلم أنه لا إله إلا الله عز وجل، وهذه كلمة عظيمة طالما رددها ابن تيمية في الفتاوى، كلما مضى قليلاً عاد، فقال: فليعلم المسلم أنه لا إله إلا الله، ولا يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق ورزق، وأعطى ومنع.

اسمع الكلمات، والعقيدة الحارة، والتوحيد الخالص؛ الذي جعل هذا الإمام العظيم صانع الأحداث، وجعله يقف أمام الخرافات والبدع والإلحاد والزندقة، وقد باع روحه من الله، اسمع إلى هذه الكلمات المتدفقة من نور الله عز وجل، ونور رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال: ورفع ووضع، وبسط وقضى، أرزاق الكائنات في خزائنه قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:٦].

وهذه الآية تعلمك من الخالق والرازق والذي يعطي ويمنع.

قال: وآجال النفوس عنده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:١٤٥] يغير ولا يتغير، ويبدل ولا يتبدل، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، لا يجبره أحدٌ على فعل أمر، قال عن نفسه عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١] يزيل الملوك ولا يزول، ويحيل الدول ولا يحول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:٢٦].

وهو الممدوح بكل لسان، المعروف بالإحسان، المدح في حقه حق وعبادة، وفي غيره مذموم ممن أراده، مدح نفسه قبل أن يمدحه المادحون، ونزه نفسه قبل أن ينزهه المنزهون: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:١٨٠].

وقفة: أنا أعلم أن كثيراً منكم يقول: هذا كلام نسمعه صباح مساء ليس فيه جديد، وأقول: بل كله جديد على الأذهان التي لم تعمل به، أو التي لم تعتقده، أو لم تعش به في دنيا الواقع.

قال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] لا يموت ولا تبليه الوقوت: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨] {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] هو اليوم كما كان قبل أن يخلق اليوم، من أطاعه أحبه وقربه، ومن حاربه قصمه وأدبه، وهو صمد تصمد إليه الكائنات، لا إله إلا هو، الحيتان في متاهات البحار تسأله طعامها، والديدان في طبقات الطين تطلبه قوامها، والطيور في الأوكار تشدو بذكره، والبهائم في القفار تلهج بشكره: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:٥٣].

فيا أيها المخلوق الهزيل والعبد الذليل! ويا أيها الفقير الحقير والكائن الصغير! تعلق بحباله فإنك غريب، ولا تقصد غيره فتهوي في مكان سحيق، فلا ينصرك ناصر، ولا يشفع لك شافع، ولن تجد من دونه ملتحداً.

في الأثر -الذي ذكره ابن كثير في التفسير - أن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي ما اعتصم بي مخلوق دون غيري فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له فرجاً ومخرجا، وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري مخلوق إلا قطعت الحبال بيني وبينه، وزلزلت الأرض من تحت قدميه.

فلا تخف غيره ولو خوفك المرجفون، فإنهم يخوفونك بالذين من دونه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:٣٣] ولا تعبد غيره؛ فإن الله سبحانه وتعالى حرم الجنة على من عبد غيره، فلا يملك الضر والنفع، ولا الحياة ولا الموت ولا النشور إلا هو، أما العباد أصلاً فلا يستطيعون جلب نفع أو دفع ضر عن أنفسهم فكيف بغيرهم، وقد قال لأشرف خلقه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:١٨٨].

ويقول إمام الموحدين وسيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.

ولكن كثيراً من الناس؛ حتى ممن صلى وصام، وتهجد وقام، ينسى هذه العقيدة، فيخاف من غير الله أكثر من خوفه من الله، ويرجو غير الله أكثر من رجائه في الله، ويهاب منهم أكثر من هيبته من الأحد الصمد، فتجده يراقب الناس ويرائيهم، ويتخوف منهم، ويشتد حذره منهم، ويعتقد أنهم أهل النفع والضر والخلق والرزق، وهذا سوء تقدير وقلة تدبير، وجهل بالعلي الكبير.

وتجد هذا المسكين لا يراقب الله، ولا يحذر مولاه؛ الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، والذي حكم الكائنات بقهره، ونواصي العباد بأمره: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٦].

وتجدهم لا يعبدون الله حق عبادته، ولا يتقونه حق تقاته؛ لأنهم صرفوا حقه لغيره، وما ينبغي له لسواه، فلا يأمر أحدهم بالمعروف خوفاً على نفسه، ولا ينهى عن المنكر حذراً من قطع رأسه، ولا يصدع بالحق حرصاً على الرزق، فتوحيده هزيل، وقلبه ذليل، ولو سمع قول الجليل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:٥٢] وقوله جل ذكره: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥] وقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣] وقول الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:٨١].

فالواجب على من يقدر الله حق قدره أن يرهب ربه وألا يرهب الناس، فإن مولاه يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:٤٠] وأن يخشى إلهه ولا يخشى الناس؛ فإن الله يقول: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:١٥٠] ويقول عز من قائل في المنافقين الجبناء، والفجرة السفهاء: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:١٠٨] إلى آخر الرسالة، وهي موجودة بعد الصلاة إن شاء الله بكمية طيبة خارج المسجد، لتقرأ في المساجد أو على خطباء المساجد وأئمة المساجد أيضاً، وأرجو ممن يقرؤها أن يصحح بعض الأخطاء الإملائية في الآيات والأحاديث، عل الله أن ينفع بها سبحانه وتعالى، وأطلبكم الترحم على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>