[مداعبة الأطفال]
ومما ينبغي كذلك على المسلم لأطفاله في سن الطفولة أن يلاعبهم، والملاعبة سنة، ومن قال: إنها هجنة فهو خاطئ، ومن قال: إنها ضياع للوقت فهو مخالف، بل هي سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أكثر من اشتغل بأمور الأمة، وحوادث العالم محمد عليه الصلاة والسلام ومع ذلك كان يقبِّل الأطفال، كان يجلس في مجامع الناس فيأتي الحسن وهو صغير فيفتح يديه عليه الصلاة والسلام ويضحك ويخرج لسانه للحسن فيأتي الحسن مسرعاً حتى يرمي بنفسه على المصطفى عليه الصلاة والسلام، خلق كالشهد المصفى، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: أنه قام يخطب الناس على المنبر فلما انتصف في الخطبة جاء الحسن وعمره ما يقارب خمس سنوات، وعنده ثوب طويل -مسبل وهو طفل لم يبلغ التكليف- فكان يعثر في ثوبه في المسجد بين الصفوف، يقوم إذا عثر ثم يمشي قليلاً ثم يعثر على وجهه؛ فانشغل عليه الصلاة والسلام به عن الخطبة، فترك الخطبة ونزل واحتضنه وقبله وحمله على كتفيه حتى صعد به على المنبر ثم وضعه في جانبه، ثم التفت إلى طفله الحسن وقال: {إن ابني هذا سيد -أي: إنه بطل من السادات- إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين تقتتلان من المسلمين} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وبالفعل أصبح سيداً من السادات، وولياً من الأولياء، وأميراً من الأمراء، وإماماً من الأئمة، وتولى إمرة المؤمنين خمسة أشهر، ولما اجتمع أهل العراق وأهل الشام ثمانون ألفاً مع مائة ألف، السيوف مصلتة وكادوا يقتتلون خرج هو فحقن الله به الدماء وتنازل عن الخلافة وأصلح بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
وفي ترجمة الحسين بن علي -وكان شاباً صغيراً- أن عمر بن الخطاب تولى الخلافة -ذكرها الذهبي في ترجمة الحسين - فجلس عمر على المنبر ينتظر الأذان ليؤذن ثم يخطب بعد الأذان، فأتى الحسين وكان طفلاً صغيراً، وكان يعهد المنبر لجده صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر وقال لـ عمر: انزل من على منبر جدي؛ فبكى عمر بن الخطاب حتى دمعت عيناه وقال: صدقت، وهل أنبت الله الشعر في رءوسنا إلا بفضل الله ثم برسالتكم.
يقصد: من بيتكم خرجت الرسالة، الحسين بن علي هذا ابنه علي بن الحسين الذي تجاهله هشام بن عبد الملك لما طاف قال: لا أعرف من هذا.
قال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البيداء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قدم عليه وفد من بني تميم من نجد، ووفد بني تميم حديثو عهد بالإسلام وكانوا أهل بادية، والجفاء في أهل البادية، تجد الواحد منهم عنده عشرة أبناء ما قبل أحدهم منذ ثلاثين سنة، ما عنده إلا الضرب أما التقبيل والمداعبة والملاعبة فلا يجيد، عنده أبقاس وملاكمة ومرامحة ومناطحة! لأنه في الغالب لا يرى إلا التيس والكلب، ينطح التيس وينبح الكلب، كما قال شاعر المتوكل علي بن الجهم وهو يمدح الخليفة فقال له:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فقام الوزراء يريدون أن يبطحوه أرضاً فقال: دعوه، ما عاش إلا مع هذه البيئة، ردوه عند الرصافة في بغداد سنة، فأنزلوه عند النهر وفي الحديقة وعند البساتين الغناء والرياض الفيحاء، فأتى بعد سنة فاستطلع قصيدته بأجمل بيت يقول فيه:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فالبيئة لها تأثير، والشاهد من هذه القصة: {أن الأقرع بن حابس رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسن بن فاطمة، قال الأقرع: تقبلون الأولاد عندكم؟! والله إن عندي عشرة من الأولاد ما قبلت واحداً منهم، قال عليه الصلاة والسلام: وهل أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك} يقول: ما دخلي وما شأني، وهل أملك أنا أن أوزع الرحمات، لا.
الذي يوزع الرحمة هو الله.
وقال أهل العلم فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: {كانت الجارية تأتيه فتأخذ بيده عليه الصلاة والسلام فتذهب به في شوارع المدينة حتى تعيده إلى مكانه عليه الصلاة والسلام} إلى غير ذلك من القصص التي تنبئ أن من الواجب للطفل ملاعبته؛ لأنه في سن لا يقبل العلم، فلو تلقي عليه محاضرات الدنيا أو علوم الدنيا، فلن يفهم، يريد ملاعبة ومداعبة؛ ولذلك إذا أتيت وأنت متعب تجده يلقي بنفسه عليك، هو ينتظرك وينتظر ابتسامتك ومداعبتك ومزاحك وقد جعله الله سلوة لك، فإن كثيراً من الآباء لا يزيل غمومهم وهمومهم ومتاعب أعمالهم وما يجدونه من نكد في الحياة إلا هؤلاء الأطفال، فحق أن تخصص لهم وقتاً في المداعبة والملاعبة كما فعل عليه الصلاة والسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم، كما عند الترمذي {ربما مازح الأطفال فيأخذ بأذن أحدهم، أخذ بأذن أنس ففرك أذنه وأرسله} وعند البخاري {أن ابن عباس لما قام عن يسراه أخذ بأذنه ففتلها وحوله على يمينه} قال ابن حجر: وفيه أن يؤخذ بأذن التلميذ ليعلم لأنه أذكى له، قلنا لـ ابن حجر: بشرط أن يكون الأخذ هيناً ليناً لا يفرك أذنه حتى يقطر الدم فإن هذا من التعزير، يعني: فركاً بسيطاً حتى يصيح، فإذا صاح فحسبك بهذا الفرك.