للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[موقع الشعر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم]

يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت: {كيف أنت والمشركين؟ -أي: كيف بك إذا جُمِعْنا مع المشركين في صراع أدبي رهيب- فأخرج حسان لسانه متحدياً وضرب أرنبة أنفه، وقال لسانه: يا رسول الله! والله لو وضعته على حجرٍ لفلقه، وعلى شعرٍ لحلقه، فدعا له} فأرسل القوافي كالقنابل، وأرسل الأبيات كالسهام، يقول قبل غزوة الفتح مهدداً الشرك والوثنية والإلحاد والزندقة:

عدمنا خيلنا إن لَمْ تروها تثير النقع موعدها كداء

أي: نسأل الله ألا يعيد هذه الخيول إلى رحابها وإلى بيوتنا إن لم تصف الحساب معكم، وإن لم تعلن نتيجة النصر مع الباطل.

تظل جيادنا متمطراتٍ تلطمهن بالخُمُر النساء

فيتبسم عليه الصلاة والسلام، ويسأل أبا بكر النسابة الحافظ للشعر، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يحفظ الشعر، وعدم حفظه للشعر كمالٌ فيه، إذ لو حفظ الشعر؛ لقالوا: نسج القرآن شعراً وإن الأمية فيه كمال، إذ لو كان كاتباً؛ لقالوا: كتب القرآن بيده، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:٦٩] وقال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨].

فيقول لـ أبي بكر وهو يرى خيول خالد قد فتحت من كداء بـ مكة ونساء مكة يخرجن الخمر يلطمن الخيل، فيتبسم عليه الصلاة والسلام لتحقيق قول حسان، ويقول: {يا أبا بكر! كيف يقول حسان؟ فيعيد عليه الأبيات}

ويسمع القائد العظيم أبيات الحماسة والصدق والنبل فيتأثر بها، ويشهد الرسول عليه الصلاة والسلام بدراً وينتصر انتصاراً رائعاً سجله التاريخ، فيأتي حسان ويشارك، فقد كان حسان يقصف بلسانه والأبطال يضربون بأسيافهم، فيقول للحارث بن هشام الذي فر من المعركة - وهو أخو أبي جهل - فبعد أن تغزل حسان، واستفتح بالرقة والعاطفة الجياشة، قال:

إن كنت كاذبةَ الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرة ولجام

يقول للمحبوبة: إن كنت كاذبة فأنجاك الله -عز وجل- كما أنجى الحارث بن هشام، الذي ترك الأبطال في بدر وفر، فوقعت هذه الأبيات وخزاً وسيفاً على الحارث، وقد أسلم وخرج إلى اليرموك ليبيع دمه وليطهر أوضاره من هذه، وليكتب في سجل الخالدين، وتوفي عليه الصلاة والسلام وترك لنا شعراء ثلاثة، والله عز وجل يسطر في الشعراء آيات بينات: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:٢٢١].

هل نخبركم بالدجاجلة؟ هل نخبركم بالمرتزقة المنافقين؟ هل نخبركم بباعة المبادئ؟

{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:٢٢٢] الذي لا يحمل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:٢٢٣] يتشدقون عند الكيانات والأشخاص، يمدح من ذم أمس، ويذم من مدح أمس.

عندما أتى شعراء المصطفى عليه الصلاة والسلام الثلاثة: حسان، وكعب، وابن رواحة يبكون ويقولون: {يا رسول الله! نحن الشعراء وأنزل الله فينا ما تعلم! فنزل جبريل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء:٢٢٧]} إلا الذين آمنوا بلا إله إلا الله، إلا الذين توضئوا ودخلوا المسجد، إلا الذين حملوا المصحف، إلا الذين أيدوا الرسالة التي أتى بها عليه الصلاة والسلام، إلا الذين تطهَّروا من أوضار التخلف والحزبية للباطل، والركوع للآثم الفاجر: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٧].

<<  <  ج:
ص:  >  >>