للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نسبتهم إلى الفيل وكيدهم في تضليل]

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:١]:-

قالوا: سكت الله عزَّ وجلَّ عن تفصيل الحادث لأنه حادث عظيم، والله عزَّ وجلَّ يعمم في القرآن ويهوِّل؛ ولذلك لا يذكر الله عزَّ وجلَّ التفاصيل، مثل قوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:٥٤] ولم يخبرنا ماذا غشَّى، وقال في سدرة المنتهى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:١٦] ولم يخبرنا ماذا يغشى السدرة حتى أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا من هول المقام، أنك تهول الحادث، ولذلك تقول العرب: لقي جزعه، لقي ما لقي، ووجد ما وجد، وحصَّل ما حصَّل.

{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:٢]:-

هذا يُسَمَّى لفّاً ثم يأتي النَّشْر، فهذا اسمه: لف ونَشْر.

{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:٢]: قال أهل العلم: كادوا كيداً وكاد الله كيداً، فغلب كيد الله كيدهم، وعند أهل السنة لك أن تطلق أن الله يكيد بمن كاده؛ لكن ليس من صفات الله أنه يكيد كيداً مجرداً أو مطلقاً؛ فإن الله يمكر بمن يمكر به، والله يخادع من يخادعه، ويستهزئ بمن يستهزئ به، والله عزَّ وجلَّ يقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢] وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه يستهزئ بمن يستهزئ به، وقال سبحانه وتعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:٧٩].

أما المكيدة في هذا فهي في أمور:

أولاً: من المكيدة أن أبرهة الأشرم أخذ العيون عن العرب، فلم يدرِ كفار قريش حتى نزل في الحرم، لم يدرِ كفار قريش -وهذه النتيجة- أنه أغلق عنهم العيون والجواسيس وقطع عنهم الخطوط الإمدادية حتى وصل.

الأمر الثاني: شتت شمل العرب مما جعل القبائل خلفه.

الأمر الثالث: من المكيدة أنه لم يهاجم كفار قريش في بيوتهم، وإنما هاجم البيت وحده، إذ أنه لو هاجمهم لربما دافعوا، بل قال: انظروا الكعبة، خلوا بيني وبين الكعبة، فأبطل الله كيده وقال: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:٢] أي: في ضياع وخطأ، وكل من كاد الله جعل الله كيده في نحره، ولذلك يُحذِّر من محاربة الإسلام؛ لأنه مهما رأيت الباطل ينتفش ومهما رأيته يعلو فإنه سوف ينهار لا محالة، ولذلك لا تغتر الآن بالصيحات الإعلامية القائلة: إن المسلمين أُبيدوا بكذا، وأنهم اضطهدوا، وأنهم سجنوا، فإن العاقبة للمتقين، والله عزَّ وجلَّ يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥١ - ٥٢] واسمع الله يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:٢١] ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣] إلى آيات كثيرة يخبر سبحانه وتعالى فيها أن العاقبة والنصر لأوليائه لا محالة، فلذلك لا تستبطئ نصر الله، ولا يهولنَّك ويهمنَّك ما ترى من كثرة إبادات المسلمين، أو علمائهم، أو دعاتهم، وقيام الكفار عليهم، وكثرة جيوش الكفر وتخطيطه ومكره فإن الله ولي الذين آمنوا.

قال: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:٢] وما بعد هذا الكيد من كيد، وما بعد هذا التضليل من تضليل ولذلك لا يُسمع بجيش في جاهلية ولا إسلام رجع بنتيجة سيئة وبهزيمة كما رجع أبرهة، رجع باثنين معه، ورجع وجسمه يتساقط في الطريق، وخسر ستين ألفاً كانوا معه، وهم من أكثر أعداد الجيوش في ذلك العصر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>