[ابن عمر وحديثه عن الغربة]
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً.
والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، الهادي النبيل، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تكون لي ولكم حجة عند الله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
بين يدي الحديث:
أتيتُ من أبها بلاد الجمال أقول: أهلاً مرحباً بالرجال
تعالَ يا من قلبه في العلا يهوى المعالي ويحب الجلال
أحبكم في الله سبحانه يجمعنا الله بدار الكمال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلى وأنتم أحفاده يا رجال
نعم فهذا الحديث عن الغربة، يوم يعيش المسلم غريباً بين أهله، غريباً في حَيِّه، غريباً في مجتمعه، غريباً في أمته.
ولنستمع خاشعين إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يفيض روحانية وهداية ونوراً، وكأن لسان الحال للقارئ يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيتَ بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مذنف قامت حشاشتُه ولو رآها غريبٌ دارُه لسلا
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، وقال: {كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [[إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك]] رواه الإمام البخاري وابن ماجة والإمام أحمد والبيهقي وأبو نعيم، وجَمٌّ غفير من أهل العلم
والحديث صحيح وفيه قضايا:
القضية الأولى: من هو ابن عمر، صاحبنا هذه الليلة، حياه الله وبياه وحيا الله جهده وإيمانه وإخلاصه، إنه تلميذ من مدرسة المعلم الكبير محمد صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي من معلم.
ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
عاش مع الرسول عليه الصلاة والسلام الإيمان والحب والطموح، وتعلم في مدرسته، وله أحاديث ذكر صاحب كتاب الزهد الإمام وكيع بسند حسن، أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه من كثرة خشيته لله عزَّ وجلَّ ومن كثرة بكائه، قرأ من سورة المطففين حتى بلغ قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] فبكى حتى أغمي عليه، وهي والله من أعظم الكلمات، وهي والله عبرة للمعتبر، يوم يتصور المسلم والمسلمة، والذكر والأنثى يوم يقوم من القبر لرب العالمين!
أيُّ منظرٍ هذا؟
أيُّ هَولٍ هذا؟
أيُّ دهشٍ هذا؟
وهذا استطراد ولكن لحكمة! ولذلك روى ابن كثير أن الخليفة العباسي المهدي دخل المسجد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام، فقام له الناس جميعاً إلا ابن أبي ذئب فقال له المهدي: قام لي الناس إلا أنت، قال: كِدت أقوم، فذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] فتركت هذا القيام لذاك اليوم، قال المهدي: اجلس فوالله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
ابن عمر في صحيح البخاري أنه رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنتُ عَزَباً، وكنتُ أنام في المسجد، وكان الناس يرون الرؤى فيعرضونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح -فأراد ابن عمر أن يشارك الناس، ويرى رؤيا، فكان يتمنى أن يرى رؤيا في المنام علَّه يظفر بعرضها على المصطفى عليه الصلاة والسلام- فرأيتُ في المنام كأن رجلين أتياني فأخذا بيديَّ -باليمنى واليسرى- فذهبا بي إلى بئر مطوية، فإذا بها بئر مطوية، ولها قرنان، فخفتُ، وفزعت، فقال لي الملكان: لَمْ تُرَعْ، لَمْ تُرَعْ -أي: لا تخف، لا تخف- قال: ثم أعطياني قطعة من حرير، لا أُشير بها إلى روضة في الجنة إلا طارت بي إلى تلك الروضة، فلما أصبحتُ في الصباح، استحيت أن أعرض الرؤيا على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فعرضهتا على حفصة، فعرضتها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: نِعْم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل، قال نافع: فوالله الذي لا إله إلا هو ما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً} كان يسجد في الحرم، ويبكي، ويقول في سجوده: اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة لقريش إلا من مخافتك، أي نعم والله: {كن في الدنيا كأنك غريب} بقي هذا الحديث يرن في ذهنه صباح مساء، لا ينساه أبداً إنها وصية محمد عليه الصلاة والسلام.
كان زاهداً بمعنى الزهد، ثيابه وماله وبيته كثياب ومال وبيت من ترك الدنيا لوجه الله عزَّ وجلَّ.
ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان ذكياً في مجلسه صلى الله عليه وسلم، كان يقول: قال صلى الله عليه وسلم مرة من المرات: {شجرةٌ مَثَلُها كمَثَلِ المسلم، حدثوني ما هي؟ -والحديث في الصحيحين - فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي: أنها النخلة، فاستحييت، فقال عليه الصلاة والسلام: هي النخلة، فأخبرت أبي فقال: ودِدْتُ أنكَ قلتَ ذلك، وأنها بكذا وكذا من الدنيا} أو كما قال.
كان يقرأ كل ليلة: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] ويبكي ويقول: [[هو عثمان بن عفان]] مضى لسبيلِه وما تدنس من الدنيا بشيء، بقي إيمانه وإخلاصه وزهده وعبادته.