للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أنموذج ممن في صدورهم حرج]

وهناك قصص كثيرة كثيرة تشهد أن الصحابة أطاعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يكن في صدورهم حرج.

لكن تعال إلى نماذج ممن في صدره حرج، فهناك الكثير من الناس، ونحن لو حققنا أنفسنا لعدنا إلا أنَّا تركنا كثيراً من السنن، لأننا نتحرج من بعض إقامتها، وبعض الناس ما ترك السنة إلا للتحرج، حتى إنك تجد مَن يصانع الناس في المجالس بأموره وتقواه وعبادته من أجل ألا يحرج الناس، حتى يترك السنة من أجل ألا يحرج الناس، فيُحرج نفسَه، فيكون في نفسه حرج مما أُنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام.

الجد بن قيس أحد المنافقين، ذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك يغزو، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في قلبه حرج من الهداية، وقد أعطاه الله من الدنيا، قال: {ائذن لي، فأنا لا أستطيع أن أذهب إلى تبوك، قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَه؟ قال: أنا رجل إذا رأيت بنات الروم وقعن في قلبي وافتتنت} وهذا كذب، أيترك الجهاد خوفاً من الفتنة؟! أيعصي الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من الفتنة؟ وهذا يسميه ابن تيمية: الورع البارد، فبعض الناس يعتذر لمعصيته بأمور، فيعتذر لمعصيته بقوله: لولا كذا لفعلتُ كذا، وبعضهم يترك بعض السنن ويقول: تأليفاً للناس، وبعضهم يأتي بعض المعاصي ويقول: تأليفاً للقلوب، وهذا مثلما قال الجد بن قيس فعذره عليه الصلاة والسلام وتركه، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:٤٩] يقول ابن عمر: [[والله ما زالت سورة التوبة، تقول: ومنهم، ومنهم، حتى خشينا على أنفسنا]] قال ابن عباس: [[أما هذه السورة فهي الفاضحة]] كلما قال أحدهم كلمة أنزل الله: ومنهم من يقول، ومنهم من قال، ومنهم من فعل قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:٤٩] قال سبحانه وتعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:٤٩] أكبر فتنة أنهم تركوا الجهاد معك، {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:٤٩ - ٥٠] يقول: هم أذكياء، لو أصابتك دائرة أو هزيمة قالوا: انتبهنا لأنفسنا وبقينا في المدينة.

يقول ابن القيم: ما هُدد الناس بمثل هذه الآية: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:٨].

فلما عاد صلى الله عليه وسلم أتى ثمانون كلهم كَذَبَة يستأذنون من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! والله لقد مرضت زوجتي ولولا مرضها لخرجتُ معك، قال: أذنتُ لك.

قال الثاني: أما أنا فقد خفتُ من بنات بني الأصفر، قال: أذنتُ لك.

قال الثالث: أصابني عرج، قال: أذنتُ لك -كلهم أهل حيل- فلما أذن للثمانين نزل جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد بقول الله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:٤٣] يقولون: أراد ألا يخوفه ربه، والأول يقول: أخطأت في التصرف معهم لكن عفا الله عنك، فالمنهج مع هؤلاء ليس كما فعلتَ لكن عفا الله عنك، وهم ما صدقوا معك لكن عفا الله عنك، وهم أصلاً كذبة ومنافقون لكن عفا الله عنك، يقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣].

وكان قد ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ومعه الجد بن قيس، قال صلى الله عليه وسلم: تعالوا بايعوني، فعلى ماذا بايعوه تحت الشجرة، يقول بعض الكتبة في السِّيَر: هل بايعوه على حكومة مستقلة يتولون إدارتها؟

هل بايعوه على قصور يقتسمونها وعلى حدائق يتوزعونها؟

لا.

بل بايعوه على الموت؛ لأنه أرسل عثمان بن عفان حيث أفطر بـ مكة عند بني أمية قرابته، فأتى نائح يصيح من آخر الجبال - جبال بني قبيس - يقول: قُتل عثمان بن عفان، فغضب صلى الله عليه وسلم وجلس تحت الشجرة وقال: بايعوني على الموت، أي: ندخل مكة فلا يعود أحد مادام أن عثمان قُتل، قال سلمة بن الأكوع: والله الذي لا إله إلا هو لقد أخذتُ بالأغصان عن وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعتُها وهو يبايع الناس -كانت الشجرة من سلم -وقيل: من سَمُرَ كما قال ابن كثير وهو الصحيح- فرفع الشوك عنها- قال: بايعني يا سلمة! فبايعتُه على الموت، فلما انتصف الناس قال: بايعني يا سلمة! قلتُ: بايعتُك يا رسول الله! قال: وأيضاً، فبايعتُه، فلما انتهى الناس قال: بايعني يا سلمة! قلت: بايعتك يا رسول الله! قال: وأيضاً، فبايعته، فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: {اللهم هذه عن عثمان بن عفان، فجعل يسراه الكريمة صلى الله عليه وسلم في يمناه} بايعه عن عثمان أي يقاتل هو عن عثمان، فمادام عثمان قد قتل فإنه يقوم صلى الله عليه وسلم مقامه.

قال سيد قطب في الظلال: اسمع إلى بشرى الله، وتصور نفسك أنك ممن جلس مع الرسول تحت الشجرة، ثم تجلس معهم ثم يبايعون، ثم تنتهي البيعة، ثم يهبط جبريل ويقول عن الله الذي مَلَكَ السماوات والأرض والذي مقاليد الأمور بيده يقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨] حتى الشجرة، يقول: هذه الشجرة المعروفة، أنتم الذين جلستم تحت هذه الشجرة رضي الله عنكم، ألف وأربعمائة مبايع، يقول سيد: تصور أنك واحد من ألف وأربعمائة يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم في حرارة الشمس على الموت، فلما انتهوا من البيعة وقبل أن يغادروا الشجرة، وإذا بالمرسوم الإلهي من عند علام الغيوب الذي كلامه حق وقوله حق ووعده حق: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ} [الفتح:١٨] لكن عن مَن؟ عن المؤمنين، مَن هم؟ الذين يبايعونك، في أي مكان؟ تحت الشجرة.

وهذا وصف مقرب، تحت الشجرة، وكلٌّ يعرف تحت الشجرة.

غاب الجد بن قيس وعنده جمل أحمر يبحث عنه في جبال مكة، فنُوْدِي.

سبحان الله! منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة، وأهل السعادة وُفِّقوا للسعادة، وتجد الإنسان عَيِيَّاً شقياً مبهذلاً وراء الدنيا لا نافلة ولا ذكر ولا اتباع للسنة، وتجد هذا حمامة في بيوت الله، لأن الله أراد أن يدخل هذا الجنة، وأراد هذا أن يشقى بماله.

يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ

ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ

فذهب إليه الصحابة وقالوا: يا جد بن قيس! تعال بايع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: والله الذي لا إله إلا هو لحصولي على جملي أفضل من بيعتكم، وهذه يتكلم بها كثير من الناس، حتى إنك إذا دعوت بعض الناس إلى محاضرة أو ندوة أو درس قال: جلوسنا أنفع، والحمد لله الخير كثير ومنتشر وليس هناك ناقص والحمد لله؛ فيضيع ما هو خير له في حياته في جلسة واحدة، حتى إن عطاء بن أبي رباح يقول: [[مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو]]

يقول عطاء وكان يبكي عند قوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:٦] ويقول: [[أغضبوا المولى حتى أقسم ألا يغفر لهم]] يقول: أغضبوه إلى درجة أنه أقسم ألا يغفر لهم، ولذلك يقول أحدهم: احذر أن يغضب الله عليك فيقسم على نفسه سبحانه وتعالى ألا يغفر لك، نعوذ بالله!

قال الحسن البصري في سورة الكهف عن الخضر في قوله: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:٧٨] سبحان الله! موسى خالف الخضر ثلاث مرات فقال: هذا فراق بيني وبينك، وأنت يا عبد الله! تخالف الله في اليوم سبعين مرة، ألا تخشى أن يقول: هذا فراق بيني وبينك؟!

هذا نموذج ممن في قلبه حرج من اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وما رضوا به صلى الله عليه وسلم إماماً وقدوة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>