للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فصاحة علي رضي الله عنه]

أما فصاحته: فهو الخطيب حقاً، خطيبٌ كالسيل، وهو لم يدرس في جامعة ولا كلية ولا مدرسة، لكن علمه الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وتربى في بيت النبوة، ورضع من ثدي الرسالة، يأتي يوم الجمعة فينهل بالخطبة فيبكي الناس، وتقشعر الأبدان من كلامه، لأن كلامه صادق مؤثر.

وفي ذات يوم سئل: يا أمير المؤمنين! كم بين العرش والأرض؟ لم يمترها رضي الله عنه بل قال: بين العرش والأرض دعوة مستجابة، وهذا من أحسن ما يقال، دعوة مستجابة بين العرش والأرض، ولذلك تسري في ظلام الليل ويقول الله عز وجل لدعوة المظلوم: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} قيل له: كم بين الشرق والغرب؟ وهو لم يمتر الشرق والغرب، قال: مسيرة الشمس يوماً، لأنه فصيح جد فصيح، والرجل صاحب نسك، وكان يوقر الصحابة خلافاً لمن يدعي حبه الآن ممن تأثموا بحبه، لأنهم رفعوه فوق منزلته التي لا يرضاها هو، بل صح عنه بالتواتر أنه كان يقول على منبر الكوفة: خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر رضي الله عنه وعنهم.

وكان يقول: كان الرجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثني بحديث استحلفته، فإن حلف صدقته؛ أي: إذا جاء صحابي إلى علي بن أبي طالب يحدثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: احلف أنك سمعت هذا الحديث، قال: فإذا حلف صدقته فعملت به ونفعني الله به ما شاء، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر -أي: أن علياً لم يستحلف أبا بكر وأبو بكر لو تكلم عن أهل الدنيا لصدق وبر -قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من أذنب ذنباً فتوضأ وصلى ركعتين واستغفر الله من ذاك الذنب، غفر الله له ذاك الذنب}.

فخذوا هذا الحديث هدية بالمجان، والحديث صحيح في المسند: ولا يلزمك أن تذهب إلى الحاكم وإن أصبت حداً، لا.

بل كما في الحديث وأورده ابن حجر في بلوغ المرام: {من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله} فأنت إذا أذنبت ولو بذنب كالجبل ثم راجعت نفسك، ورأيت أنك تعرض على الله وأنك محاسب، وأنك ضعيف؛ فقمت فتوضأت وصليت ركعتين واستغفرت الله غفر الله لك ذاك الذنب، ومصداقه قوله وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:١٣٥ - ١٣٦].

وفي البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة، وأنت إذا سألت المرأة وقلت أين هو، يعني: زوجها -قالت: {غاضبته فخرج إلى المسجد} - انظر الحياة؛ لا نعيش في الخيال، بعض الناس إذا رأى إنساناً يغاضب أهله قال: هذا ليس مسلماً، كيف يغاضب أهله؟ لكن هذه حياة الواقع، ومن يعيش حياة الناس ويرى المشكلات التي تدور يرى أن الناس لن يبلغوا درجة الملائكة، {فأتاه صلى الله عليه وسلم فوجده نائماً والتراب على جنبه، فأخذ ينفضه برجله صلى الله عليه وسلم ويقول له: قم أبا تراب! قم أبا تراب!} فكانت أحب كنى علي بن أبي طالب وأحسن من أن تقول له: يا أبا الحسن، وأهل الشام لما تقاتل هو وإياهم كانوا يقولون: أبا تراب فكان يفرح بهذه الكنية، كما يقول الأول:

وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

يقول: يا ليت كل مسبة مثل هذه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه، وفي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام من الليل، فذهب إلى علي وفاطمة فأيقظهما فقال: ألا تصليان، ثم رجع إلى بيته فصلى عليه الصلاة والسلام وانتظر هل يسمع الباب يفتح، وهل يسمع من يتوضأ، لأنههما قريبان منه، فما سمع فعاد فقال لـ علي: ألا تصليان؟ فقام علي يعرك عيونه من النوم ويقول: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أمسكها وإن شاء أرسلها، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:٥٤].

وتولى الخلافة بعد عثمان، وأقام زهداً وعبادة وصدقاً مع الله، فكان يأتي في ظلام الليل الدامس يصلي ويبكي، ويقول كما في حديث ضرار بن الحارث: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادك حقير، وعمرك قصير، وسفرك طويل، آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ولقاء الموت]] وكان شاعراً مجيداً من أفصح الناس، لكنه ما اشتغل بالشعر، بل انصرف إلى القرآن والحديث، لأن الشعر وحده ليس برسالة، يقول في مقطوعات له من أحسن ما يقال:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها

فاعمل لدار غدٍ رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها

هذه من أحسن كلمات الموحدين، وبقي على الصفاء والزهد والعبادة، وبقي يتحسر على حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

حتى مرض قبل موته بأسابيع فقال له ابنه الحسن وهو أكبر أبنائه: يا أبتاه! أوصِ لنا، واكتب لنا كتاباً فإني أخاف أن تموت الليلة، قال: والله لا أموت الليلة.

كيف يحلف أنه لا يموت الليلة؟ هل عنده صك أنه لا يموت الليلة؟ نعم.

قال: والله ما أموت من هذا المرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أنني لا أموت موتاً حتى تخضب هذه من هذه، يقول: أنا ما أموت على الفراش، ولن أموت إلا بالسيف، والله ما كُذِّبت ولا كَذَبْتُ، فشفي من مرضه واستمرت به الحياة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تدري يا علي من أشقاها؟ قلت: يا رسول الله! قاتل الناقة، قال: وتدري من أشقاها؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أشقاها من يقتلك} فأتى عبد الرحمن بن ملجم أحد الخوارج الخبثاء الحقراء، مبتدع ضليل مارد فاجر، أتى إلى امرأة اسمها الرباب فطلب الزواج منها وكانت جميلة فقالت: أتزوجك بشرط أن تقتل علي بن أبي طالب، فأخذ يسم سيفه بالسم شهراً كاملاً حتى أصبح السيف أزرق، ثم أتى في صلاة الفجر، وكان علي بن أبي طالب يوقظ الناس لصلاتهم، ودخل المسجد ووجد هذا الفاجر قد اضطجع على سيفه، جعله تحت بطنه في الطول وانبطح عليه، فأتى يركله بقدمه ويقول: إن هذه ضجعة أهل النار، فاستيقظ وقام علي يكبر فلما كبر لركعتي الفجر قام ذاك الفاجر فاستل السيف فضرب علياً في جبهته، ووقع الدم في لحيته ووقع على الأرض، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، ورفع إلى البيت رضي الله عنه، وأتى الناس يشهدون قال: الله الله لا يقتل إلا قاتلي، أي لا تزيدون في القتل، وأخذ أبناؤه يقولون: أوصنا، قال: أوصيكم بما وصى به إبراهيم ويعقوب بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٢]

جزاك الله عن الإسلام خير الجزاء، ما أحسن الكلمات! وما أصدق العبارات! وما أعطر السيرة والحياة الخالدة، ذلك هو أبو الحسن علي بن أبي طالب رابع الخلفاء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>