[اعتصام ابن تيمية بالكتاب والسنة]
المؤهل الرابع لـ ابن تيمية في مجال دعوته: اعتصامه بالكتاب والسنة.
يقول في المجلد العاشر من فتاويه: وعلى طالب العلم أن يعتصم بالدليل في كل مسألة، وأن يترك كل رأي يخالف ما فهمه من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه المعصوم.
ولما اعتصم بالكتاب والسنة رزقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تمييزاً وذكاءً وفهماً، فيأتي ويقول: أهل السنة والجماعة وسط في الأسماء والصفات، ووسط في الوعد والوعيد، ووسط في الإيمان، ووسط في القدر، ووسط في النظر، ووسط في الأمر بالمعروف، ووسط في الفقه.
وسوف أفصل لكم هذه السبع النقاط، وهي جديرة بمحاضرة وبكتيب صغير تجمع فيه؛ لأنها من أحسن ما كتب ابن تيمية في كتبه.
فأما في القدر فيقول:
أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية.
فإن الجبرية يقولون: إن العبد مجبور على فعل المعصية والقدرية يقولون: الأمر أنف، وما قدَّر الله شيئاً قبل أن يحدث، فإذا حدث علم الله به.
فـ ابن تيمية يتوسط بـ أهل السنة والجماعة في هذا، وليُعلم أن ابن تيمية هو المنظر لـ أهل السنة والجماعة.
صحيح أن العقيدة محفوظة في الكتاب والسنة، لكن ابن تيمية جمع أقوال الفرق، ومحضها، وصحح مسارها، ثم اختار منهج أهل السنة والجماعة، وقرره، وحدده، ورسمه للناس، وما أعلم أحداً قبل ابن تيمية نظَّر هذا المنهج العقدي المنظم لـ أهل السنة والجماعة.
ويقول: أهل السنة والجماعة وسط في باب الإيمان بين الخوارج والمرجئة.
فإن الخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة كافر.
فإذا شرب الإنسان الخمر عند الخوارج كفر بالله العظيم، واستبيح دمه وعرضه.
والمرجئة يقولون: العمل لا يدخل في الإيمان، فلك أن تقول: لا إله إلا الله، ثم لا تصلي أبداً وأنت مؤمن، والذي يصلي ويتقطع ظهره من قيام الليل فأنت وهو في ميزان واحد، والذي يشرب الخمر في المقهى -على مبدئهم- والذي يقوم الليل ويبكي سيان؛ لأن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والعمل لا يزيد في الإيمان ولا ينقصه.
ولكن ابن تيمية لا يرى هذا، بل يقول: أهل السنة وسط، فلا نكفر صاحب الكبيرة ولكنه فاسق، ولا نخرج العمل من الإيمان بل العمل من أركان الإيمان.
ويقول: أهل السنة في باب الأسماء والصفات وسط بين المعطلة من والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وبين المشبهة وهذا له مجالات خاصة، لكن أريد أن أعرض لكم شيئاً من فهم الرجل لهذا الدين.
يقول: وهم وسط في النظر والفكر.
فإن الفلاسفة يقولون: الدين أن تفكر فقط فهم لا يعرفون (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) يصلون في المسجد لكنها صلاة ميتة مثل صلاة البدو.
ولذلك يقول في المجلد الرابع: أهل الكلام بمنزلة المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فـ أهل السنة وسطٌ في إعمال الفكر، بخلاف أهل الباطل الذين يقولون: اذكر الله وسوف يفتح الله عليك ويلهمك، والعلم معروف، وهذه القضايا التي تقرءونها معروفة، فتجد بعض الطلاب يذاكر في الامتحان وزميله الفاشل العاطل الباطل لا يذاكر، فإذا قلت له: لماذا لا تذاكر؟ قال: الحمد لله هذه مفهومة، وهي قضايا مسلمة وسهلة، فلماذا أجهد نفسي وأضيع وقتي في هذا الكلام.
فدائماً أهل البطالة والعطالة يرسبون.
فيقول ابن تيمية: أهل السنة والجماعة وسط، يعملون الفكر ويشتغلون بالذكر فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ويتوسط في كتاب الاستقامة ويقول: أهل العلم في باب الفقه ثلاث طوائف:
فطائفة حكمت الرأي كبعض الأحناف، فقط حكموا الرأي، وعندهم افتراضات دائماً: لو حدث كذا لصار كذا، ولو صنع كذا لصار كذا، حتى إن بعض الفقهاء يمزحون على الأحناف ويقولون: لو خرجت سمكة من البحر فصلت بالناس جماعة ثم عادت إلى البحر، فهل صلاتها صحيحة؟ وهذا من كثرة افتراضاتهم هذه الطائفة الأولى.
وأتى ابن حزم الظاهري وقابل هذه الطائفة فأولئك غلوا في جانب الرأي، ولا يوجد دليل، وابن حزم أتى في الطرف الآخر وقال: القياس ملغي، والإجماع فيه شيء، فأرى أنه لا بد لكل مسألة من دليل، والدليل ظاهر الكلام.
يقول في المحلى فالاضجاع واجب عند ابن حزم، ومن لم يضطجع لم تجزئه صلاة الفجر لحديث: {إذا صلى أحدكم سنة الفجر فليضطجع على شقه الأيمن}.
وأتى ابن تيمية فقال: منهج التطرف في الرأي فيه شيء من الخطأ، ومنهج التطرف في الظاهر فيه شيء من الخطأ، والأحسن أن نأخذ الأدلة ونفهمها كما فهمها الفقهاء والمحدثون من أهل السنة والجماعة.
بالله لفظك هذا سال من عسلٍ أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
هل هناك فهم كهذا الفهم الذي منحه الله هذا الرجل؟!