[عبد الله بن المبارك يتصدق بقافلته التي نوى الحج بها]
وقد ضرب السلف الصالح أمثالاً في البذل والعطاء، ومن أعظمهم في من أعلم بعد التابعين عبد الله بن المبارك؛ كان رأس ماله ألف ألف درهم ما مرت عليه زكاة أبداً في الحول، من كثرة ما ينفق:
يقولون معنٌ لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
هذا عبد الله بن المبارك، المحدث الخطير، والزاهد الكبير، والعابد والمجاهد النحرير، مر حاجاً بقافلة عظيمة ومعه الحجيج، وهو الذي يصرف عليهم، فلما وصل البادية، نزل مخيماً تحت أشجار هناك، فإذا بجارية خرجت من بيت، وذهبت إلى المزبلة فأخذت غراباً ميتاً من المزبلة، فقال لأحد خدمه: سلها مالها أخذت الغراب الميت؟ فذهب وسألها، فقالت:"والذي لا إله إلا هو! مالنا من طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى في هذه المزبلة من الميتات".
فعاد إلى ابن المبارك، فبكى حتى كاد يغمى عليه، وقال:[[نحن نأكل الفالوذج والناس يأكلون الغربان الميتة، لن أحج هذه السنة، وأعطوا قافلتي ببرها وحبوبها وما عليها من دراهم ودنانير وثياب إلى أهل هذه البادية]] ثم عاد وترك الحج، فلما وصل إلى أرضه -أرض خراسان - رأى في أول ليلة قائلاً يقول له في المنام:"حجٌ مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور"، وهذه من معالم البذل والعطاء.
وسبحان الله! يوم يرزق الله بعض النفوس فتسخوا بما في يديها؛ تطعم الجائع وهي جائعة؛ وتسقي الظمآن وهي ظمآنة؛ وتلبس العاري وهي عارية، رجاء ما عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.