للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بدء الوحي]

بدء الوحي، هو الانطلاقة الكبرى لتحرير الأمة، والخروج من الظلمات إلى النور، النور الآن يهبط على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم، كنا فيما مضى نتحدث عن سن ما قبل الأربعين، سن الشباب العشرين، والخمسة والعشرين والخمسة والثلاثين، الآن وصل الأربعين صلى الله عليه وسلم، اكتمل رشده وأشده: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:١٥].

فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الأشد وهذه سن الأشد عند العرب، يقول الشاعر العربي سحيم بن وثيل:

وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت حد الأربعين

أنا ابن جلا وطلاَّع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني

فسن الأربعين هي اكتمال القوة الجسيمة والعقلية، فلما بلغ الأربعين صلى الله عليه وسلم كان يخرج من مكة يأخذ معه طعام ويجلس في غار حراء، وهو غار مرتفع يتعبد فيه، هل كان يصلي مثل صلاتنا التي علمنا إياها هو؟ قالوا: لا.

يتجه إلى القبلة، ويتأمل في الكون، وينظر في النجوم وفي الليل، ويبقى الليالي الطويلة هناك، ثم يعود يتزود ويعود لمثلها.

وبينما هو في الغار إذ جاء جبريل في صورة رجل، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، ولا أتاه سابق إنذار ولا إخبار، إنما كان يمر صلى الله عليه وسلم أحياناً بالحجر، فيقول الحجر: السلام عليك يا رسول الله، فيخاف صلى الله عليه وسلم، ويمر بالشجر، فتقول الشجرة: السلام عليك يا رسول الله فيخاف، فدخل عليه جبريل، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ -وهو أمي- يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمََ} [العنكبوت:٤٨ - ٤٩] وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:٢] وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢].

قال: اقرأ -مرة ثانية- قال: ما أنا بقارئ، فأخذه جبريل هكذا، والرسول صلى الله عليه وسلم مقابله، فجعل صدره على صدره، ثم أمسكه بقوة، وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأنسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:١ - ٣] فاندفع يقرأ صلى الله عليه وسلم معه، فنزل صلى الله عليه وسلم مرتعداً خائفاً من هذه المفاجأة، من أين أتى هذا؟ ثم نظر إلى جبريل فما وجده، فنزل ودخل على خديجة وهو يرتعد، قال: {زملوني زملوني} حمى، فزملته، وقال: {لقد خشيت على نفسي قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق}.

تقول: لا.

صفاتك أنت لا تخزى، أنت سوف يكون لك مستقبل، قال بعض أهل العلم: انظروا إلى هذه العاقلة كيف استدلت بحسن أفعاله على حسن مستقبله! فلما جلس إذا بجبريل يأتيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:١ - ٢] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:١ - ٥].

ثم ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو شيخ كبير في مكة من قريش، كان يقرأ الكتاب، تعلم الإنجيل، ويعرف اللغة العبرانية لغة اليهود، قالت خديجة: اسمع من ابن أخيك واسأله ماله، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بما رأى وما وجد، قال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني جذعاً، إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟!

قال ورقة: نعم، ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

ثم مالبث ورقة أن مات، واستمر الوحي، وأخرج صلى الله عليه وسلم من مكة، وأتاه من القصص ما سوف يمر معنا، قصص تشيب الرءوس.

في كفه شعلة تهدي وفي فمه عقيدة تتحدى كل جبار

وبين جنبيه وعدٌ ما سمعت به وعد التحية من بر وإصرار

ولما بلغ عليه السلام سنة الكمال وهي أربعون سنة، أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ليخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، وكان ذلك في أول فبراير سنة (٦١٠) من الميلاد، كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي، تبينت بعد دقة البحث أن ذلك كان في (١٧) رمضان سنة (١٣) قبل الهجرة، وذلك يوافق يوليو سنة (٦١٠) وأول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وذلك لما جرت عادة الله مع خلقه أن يتدرج بهم حتى يصلوا إلى درجات الكمال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>