للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير (قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد)

أي: الواحد الأحد، الذي لا نظير له، ولا وزير، هكذا يقول ابن كثير، هل تعلم لله سمياً؟! هل تعلم له نظيراً؟! والله يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:٥١].

معنى الآية: لا والله لا استشرتُ في خلق السماوات والأرض، ولا طلبتُ إدلاءهم بأصواتهم، ولا كانوا حضوراً، ولا أعانوني في البناء، ولا رفعوا معي هذا السقف، ولا بسطوا معي هذه الأرض، ولا نصبوا هذه الجبال، بل كانوا في عالم العدم، أخِسَّة، حقراء، ليسوا موجودين كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الانسان:١ - ٣].

يقول فرعون: أنا خلقتُ الخلق، فأتى الشيطان يضحك على فرعون، فطرق عليه الباب، وفرعون في القيلولة نائم، قال: من؟ قال الشيطان: أما عرفتني؟! قال: ما عرفتُك، قال: تخلقني ولا تعرفني؟! أي إنك تقول: أنك تخلق العالم، أفتخلقني ولا تعرفني؟! لأن فرعون يقول: أنا الذي خلق الناس.

وهذه الدعوة قديمة، فـ النمرود الكذاب المجرم، الذي مرغه إبراهيم في التراب، يقول كذلك.

فيأتي جمع من الناس، فيصفقون له في المهرجان، ويقول: أنا خلقتكم.

فيقولوا: يعيش يعيش يعيش، فيقول: ورزقتكم، وأميتكم، قالوا: يعيش يعيش يعيش، فأراد إمام التوحيد وشيخ العقيدة إبراهيم أن يدخل عليه حتى يمرغ وجهه في التراب، فدخل عليه، كما يصف الله تلك الحادثة: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨].

ويقال: أن الفرق بين فرعون والنمرود: أن إبراهيم هو الذي بدأ بالسؤال، أما فرعون فهو الذي بدأ بالسؤال مع موسى.

فكان النمرود أذكى قليلاً، وإلا فهما كما يقول عمر، قيل لـ عُبادَي: أي حماريك أخس، قال: [[هذا ثم هذا]] فذاك حمار وهذا حمار؛ لكن بعض الحمير أذكى من بعض.

ويقول صاحب (كليلة ودمنة): جمع الأسد الحيوانات وقال: عندي فكاهة، قالوا: تفضل يا أبا حسل، فأورد الفكاهة، فضحكوا جميعاً إلا الحمار لم يضحك وفي اليوم الثالث ضحك الحمار، فقال له الأسد: ما لك؟ قال: فهمتُ الفكاهة الآن.

الشاهد أن إبراهيم قال: للنمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] قال: كيف؟ فأخرج النمرود مسجونين، فقتل أحدهما وأطلق الآخر وقال: هذا أحييه أطلقتُه، وهذا أميتُه ذبحتُه، قال إبراهيم: ما دمتَ أنك أستطعت أن تحيي وتميت -والنمرود بالطبع كذاب فهذه ليست إحياء وإماتة- وهي مسألة أخرى، قال: ماهي؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] قال الله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨].

فالله لا وزير له، ولا نديم، ولا شبيه، ولا عديل.

ولذلك فإن الله لا ينام، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:٤١].

وورد أن موسى عليه السلام، عندما التقى مع الله قال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣].

ويوم صُعد بالرسول صلى الله عليه وسلم وعرج به قال: يا رب! كيف شرَّفته وقد بُعِثَ بعدي؟! قال ابن تيمية رحمه الله: هذه غيرة محمودة، تنافس في الحق، ليس حسداً.

وفي بعض الآثار أنه قال: يا رب! اجعلني من أمة محمد.

كان يريد أن يتفضل بأمته على الأمم، وفي الأخير يقول: اجعلني أنا من أمة محمد.

وهذا ثابت.

ففي (سنن النسائي) بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {والذي نفسي بيده، لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي}.

اسمع بعض أسئلة موسى إلى الله عز وجل:

قال: يا رب، أتنام؟ -سبحان الله! لقد التقى بالله يكلمه- قال: يا رب! أتنام؟ قال: يا موسى! لا تنم هذه الليلة، فما نام، فأتت الليلة الثانية، فقال: لا تنم، فلم ينم، فأتت الثالثة، قال: لا تنم، فلم ينم، فلما أتت الرابعة قال: يا موسى، خذ قارورتين واملأهما ماءً، فأخذ قارورتين ووقف وملأهما ماءً، فأخذ ينعس، وكادت القارورتان أن تَصْطدمان، فكان ينتبه، ولما أتى في الثلث الأخير من الليل اصطدمت القارورتان، وتكسرت، فقال الله: يا موسى! لو نمتُ لذهبت السماوات والأرض.

وأنزل الله مصداق ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:٤١] فسبحان الخالق البديع الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت!

اسمع هذه الآية: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:٣٣] من القائم على كل نفس؟ الله.

انظر إلى كل إنسان في الزحام وفي الكثرة وفي الملايين، فالله يحاسبه ويراقبه كأنه ليس مشغولاً إلا به، مع العلم أنه كما قال ابن القيم: يُغْني فقيراً، ويُفقر غنياً، ويرد ضالاً، ويهدي عاصياً، ويتوب على تائب، ويخلع هذا، ويولي هذا، وينزع هذا، ويعطي هذا، ويمنع هذا، ويحيي هذا، ويمرض هذا، ويشفي هذا {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩].

ولا يطلق هذا اللفظ على أحد إلا على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقال القرطبي: الواحد: الوتر، والله يحب الوتر فهو واحد لا ثاني له، ويحب من الأفعال الوتر، ولذلك كانت هيئات الوضوء، أو الغَرفات ثلاثاً، والطواف بالبيبت سبعاً، والسعي سبعاً، وأيام الأسبوع سبعاً، وينتهي النهار بالوتر، وهي صلاة المغرب، والليل بالوتر المعروف، فالله وتر يحب الوتر.

قال: لا شبيه له ولا نظيراً ولا صاحبة ولا ولداً، والله عز وجل يغضب من يسمي له صاحبة، قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:٩١] وما اتخذ الله من شريك، ولا نديد ولا مثيل يشاركه.

فتعالى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى!

ومما يروى من قصص بني إسرائيل وأهل السنة يروون قصص بني إسرائيل: {حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج}.

فقيل: كان بنو إسرائيل إذا غاب موسى اغتابوه وسبوه وشتموه، فإذا حضر هابوه، فدعا موسى ربه وقال: يا رب! أسألك أن تكف ألسنة الخلق عني.

ولذلك يقول الله عز وجل: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:٦٩] وقال الله: يا موسى! ما اتخذتُ ذلك لنفسي، إني خلقتُهم، ورزقتهم، وأعافيهم، وأشافيهم ومع ذلك هم يسبونني.

وورد في الصحيح: {كَذَبَنِي ابن آدم} وفي لفظ: {كَذَّبَنِي ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فيقول: إني لا أعيد الخلق كما بدأتُه، وإعادته عليَّ أهون من بدئه، وأما شتمه إياي فيقول: إن لي صاحبة وولداً، وتعاليتُ وتقدستُ، لا صاحبة لي ولا ولداً}.

وفي بعض الألفاظ: {شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وسبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فإنه يشتم الدهر، وأنا الدهر، أُقَلِّب الليل والنهار كيف أشاء} والآن الناس يشتمون الدهر، فيسب أحدهم فيقول: فضح الله هذا اليوم وهذا الأسبوع وهذا العام، وفضح الله يوماً عرفتُكَ فيه، ولا بارك الله في زمن لقيتُك فيه، أو صاحبتُك فيه.

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

إن الجديدَين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناسُ

فالليل والنهار لا شيء، ولذلك يقول الشاعر الجاهلي متعتباً على الدهر:

لحا اللهُ هذا الدهر إني وجدته بصيراً بما ساء ابنَ آدم مُوْلَعا

فالدهر لا دخل له، إنما الذي يقلب الليل والنهار هو الله، وهو مسبب الأسباب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>