[الرحلة في طلب العلم]
موسى عليه السلام؛ رسول المناظرة وأستاذ العقيدة الذي وقف في أعظم المواقف مع فرعون، يقف في بني إسرائيل خطيباً فينطق بالحكمة، ويسمعون الموعظة الحسنة وهي تنساب على لسانه فيقول بنو إسرائيل: أتعلم يا موسى أن الله خلق أعلم منك؟ فيقول: لا.
وصدق عليه السلام، هو نبي وعنده رسالة، والتوراة كتبها الله بيده وأعطاها موسى، فهو لا يعلم أعلم منه؛ فأوحى الله إليه أن عبدي الخضر بأرض كذا هو أعلم منك.
قالوا: في العلم الباطن أما علم الظاهر فأنت أعلم.
لماذا؟ ليتواضع أولاً- وهو متواضع عليه السلام- والأمر الثاني: ليطلب العلم ويحرص عليه.
وقد عقد البخاري في كتاب العلم باب (الرحلة في طلب العلم) ثم أتى برحلة موسى إلى الخضر عليهما السلام، فارتحل وطلب العلم، وانظر إلى قول موسى لفتاه وهو يقدم له السمك وقت الغداء بعد أن تعب وارتاح وبدأ يتأوه وعرقه يتصبب وهو يقول: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:٦٢]
يعني: تعبنا في هذا السفر، ولذلك يقول: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:٦٠]
يقول: سوف أسافر في طلب العلم أياماً أو سنوات حتى أصل، فلما وصل إلى الخضر عليه السلام بدأ معه، وموسى فيه جرأة وشجاعة وصراحة، وكان عمر بن الخطاب يشبه موسى عليه السلام، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا عمر فأشبهت موسى عليه السلام} فهو صريح.
ولذلك لما ركب مع الخضر في السفينة ركب كالتلميذ، لكن الخضر اشترط عليه ألا يتكلم في القضايا، يعني: يصبر قليلاً ولا يناقشه في الأسئلة، لكن لما خرب ذاك السفينة قفز موسى عليه السلام قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:٧١] التلميذ يقول للشيخ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤].
ثم لما قتل الغلام قال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:٧٤] وقبل سامحه الخضر يقول له أول مرة: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٢]
وبعدها يقول: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٥] فزاد (لك) هنا تأكيداً له.
وفي الثالثة جاءا جائعين ساهرين متعبين فينزلان في قرية، فيسألان أهل القرية أن يضيفوهما ببعض الطعام، فرفضوا، شد الله على قلوبهم البخل، نظر في الجيران فلم يجد جاراً ولا أخاً ولا صاحباً، فلما تركوهم ذهب الخضر وقال لموسى: تعال نبني هذا الجدار.
قال: سبحان الله! قوم لم يضيفونا وتريد أن تبني جدارهم؟! ركبنا مع صاحب السفينة وتخرق السفينة وكان أولى بالمعروف، ومررنا بغلام من الصبيان فقتلته، والآن هؤلاء طردونا وتريد أن تبني جدارهم؟! فقال الخضر قبل أن يتكلم: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:٧٨] لا أتحمل إلى هذا المستوى، يعني: أنا في جدال وفي نقاش حتى هذه اللحظة، أنا أريد تلميذاً لا يسأل؛ ولذلك غلاة الصوفية يقولون: لا يفلح التلميذ إذا قال لشيخه: لماذا تفعل كذا أو لماذا تقول كذا.
قال الذهبي: [[والله يفلح ثم يفلح والسلام]] يفلح عشرين مرة، لأن هذا الدين ليس إلغاءً للعقل كـ النصرانية بل لك أن تناقش ولكن بأدب، ولكن أن تقول للأستاذ ولو كان من أساتذة الدنيا وعلماء المعمورة، ولو كان أمامك أحمد بن حنبل أو مالك أو ابن تيمية تقول: لماذا تأتي بهذه المسألة وما هو دليلك؛ لأن المعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:٧٨] لكن قبل أن تذهب سوف أعطيك الحكم؛ لأن هذه فائدة الرحلة، وإلا لو قال له: لا أخبرك بشيء ذهب موسى يعلم بني إسرائيل ويقول لهم: خرب السفينة وقتل الغلام وبنى جداراً بلا أجرة!