[عنايته صلى الله عليه وسلم بجودة العبادة أكثر من كميتها]
عبادته عليه الصلاة والسلام كانت جودة أكثر من أن تكون كماً، وحسنة أكثر من أن تكون كثيرة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:٢] وقد تطرق الإمام ابن القيم لهذه المسألة، وقال في كلام معناه، لم يقل أكثر عملاً، وضرب لهذا مثلاً برجل صلى لله ركعتين فأقبل بقلبه على الصلاة، وجاهد شيطانه في الركعتين، وحاول أن يخلص وأن يخشع، ترى أنه لا ينتهي من الركعتين إلا بكل كلفة، حتى ما يستطيع أن يزيد ركعتين أخريين، وهكذا الخاشع في الصلاة، الذي يستلهم مراقبة الله في الصلاة، ويجاهد شيطانه في الصلاة، تأتي عليه الصلاة شديدة حتى ما ينتهي إلا وهو فاتر، فقد ذكروا في ترجمة إبراهيم النخعي: أنه كان إذا صلى لله فريضة ذهب فاتكأ كالمتعب، من كثرة المجاهدة، لكن الذي لا يستحضر قلبه في الصلاة، وليس عنده خشوع ولا يطارد شيطانه فباستطاعته أن يعمل خمسين ركعة، يسلم ويقوم، ويسلم ويقوم، ويسلم ويقوم، ومثل ذلك قراءة القرآن بأنه لو ألزمت نفسك في قراءة واحدة أن تقرأ القرآن من أوله إلى آخره وتتدبر كل آية وتقف وتتأمل كل كلمة، فلن تنتهي من الختمة إلا بشق الأنفس، بل السورة الواحدة لو تأملتها وتدبرتها لطالت عليك، لكن تعال إلى الذين لا يتدبرون ولا يتأملون، يفتح أحدهم المصحف ويقرأ، حتى إن بعضهم يقرأ ستة أجزاء يوم الجمعة، إلى عشرة أجزاء قبل دخول الخطيب، لكنه في أثناء القراءة يبني عمارة، ويضارب أطفاله ويؤدبهم في البيت، ويشتري سمناً وعسلاً وهو يقرأ في المسجد، ويبيع ويفكر، حتى يطوف العالم، ولكن سُهلت عليه القراءة لأنه ما استحضر الجودة، وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس في العبادة، وأنتم تعرفون وصفه بالخشوع صلى الله عليه وسلم.
وفي القرن الثالث ذكروا أن بعض الصوفية كان يصلي ثمانمائة ركعة، وهذا أمر عجيب فقد كانوا يصلون النوافل حتى يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس: رؤي بعضهم يصلى الظهر وهو ينعس، قيل له في ذلك، قال: من كثرة ما صليت في النوافل، بقي من الصباح من طلوع الشمس إلى الظهر يصلي، فلما أتت الفريضة تعب ونعس وهو يصلي، وبعضهم يقومون الليل فإذا أصبح قبل الفجر نام عن الفريضة وهو قائم في الليل، وتجدونهم يأتون بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ويجعلون أسباباً للتفاضل ما جعلها الله سبباً للتفاضل، ولا سبباً للتقدم وحده مجرداً من التقوى.
مثل البلح هذا الذي يباع في السوق، يقول أحدهم: الحمد لله، والله ما أكلت الرطب أربعين سنة، هذا ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة، ونقول له: ومن حرم عليك أكل الرطب؟ والرسول صلى الله عليه وسلم أكل الرطب، وماذا لو أكلت الرطب وأطعت الله؟! إن الله يقول: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:٥١] ولماذا خلق الله الرطب؟ ليبقى في المتاحف أو ليرسم، أو ليحرق، لا.
بل ليؤكل، فأكله جائز بالإجماع، وتجد آخر ذكره الخطابي في كتاب العزلة، وربما مر هذا، أعطاه الله عينين فأراد هذا الرجل الذكي الأريب أن يقتصد، فأخذ لصقة ووضعها على عينه، هذه هي الهلوسة التي لا تنضبط بالكتاب والسنة، فقيل له في ذلك؟ فقال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين، فتح الله عليه! إن الله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:٨ - ١٠] وأنت تقول: إسراف أن تنظر إلى الدنيا بعينين!
إن عدم الانضباط في مسألة معرفة نعم الله أو أسباب التمايز ومتى يتقدم العبد ومتى يتأخر؛ تتعب ولا تنفع؛ لأنهم ما انضبطوا مع العلم، يقولون: إذا لم تؤسس نفسك بالعلم، فأنت كالجمل الهائج في الصحراء، وما قيدوا أنفاسهم وألحاظهم بالعلم.
وانظر إلى عبادته عليه الصلاة والسلام مثلاً، يقول ابن القيم: كان عليه الصلاة والسلام يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة، لكن أولئك يصلون ثمانمائة ركعة، بل يقول الذهبي في ترجمة زين العابدين: إنه كان يصلي في الليل ألف ركعة، لكن هذه لا تدخل في العقل، فمتى يقرأ الفاتحة ويتدبر ويخشع في ألف ركعة، ولماذا؟
أما رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فقد كان يصلي أربعين ركعة غالباً، منها النوافل والفرائض وذلك في أربع وعشرين ساعة، لكن كل ركعة خير من الدنيا وما فيها، يقول ابن القيم: ومن طرق الباب أربعين مرة يوشك أن يفتح له، فالمسألة مسألة جودة لا مسألة كثرة، حتى تجد بعضهم يقول: ختمت القرآن في رمضان سبع مرات، وهو يشكر على ذلك، لكن هل عرفت التدبر؟ هل زاد الإيمان في قلبك مع تلاوتك؟ هل رأيت خطأً كنت ترتكبه ونبأك القرآن عليه؟ ربما يقول: لا.
فالمسألة مسألة الجودة ومسألة الحسن في العبادة، وهي معلم من معالمه صلى الله عليه وسلم، ومن معالمه صلى الله عليه وسلم في جوانب العبادة: أنه كان يعطي العبادة المناسبة في الوقت المناسب، يقولون: إذا حضرت في الجبهة فجهادك قتل أعداء الله، أما أن تحضر في الجبهة وتظل تقرأ في المصحف، وتترك الجهاد وحمل السلاح فما أصبت، وإذا حضرت والناس في المسجد يصلون صلاة الجماعة، وأخذت تلقي خطبة على المصلين، فهذا هو الهوس، كان صلى الله عليه وسلم كما قال الأول:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
كان وقت الجهاد مجاهداً ووقت الخطابة خطيباً، ووقت الصلاة مصلياً، ووقت الإنفاق منفقاً، لأن أسهل العبادة عند الناس يقولون: ما خالف ما هم عليه.
وبعض التجار الآن لا يريدون أن تحدثهم في الإنفاق في الغالب، إنما يريدون أن تحدثهم عن قيام الليل، فأسهل شيء على التجار قيام الليل، لكن لو جاء ينفق لأتى الشيطان فقبض على يديه بأربع أيادٍ، ولذلك تراه يقول: حدثونا عن النوافل، واتركونا من المسائل الخلافية التي اختلف فيها أهل العلم، مثل الربا، وهذه الأمور، مسائل خلافية، لأن كرشه أصبح متراً بسبب الربا، وتجد طالب العلم أحياناً إذا كسل عن الدعوة يريد أن يتنفل يقول الشيطان: تنفلك في بيتك أحسن، والشيطان يعلم أنه لو خرج كل طالب علم يدعو إلى الله لانتهى الجهل في الدنيا، فيكسله عن الدعوة، ويقول الشيطان للعابد: أرى أن تدعو إلى الله، لأنه عابد جاهل ما عنده علم، قال: أرى أن تدعو إلى الله، فلذلك تجد عامياً يدعو، وتجد طالب علم قد أغلق على نفسه بثلاثة أقفال داخل البيت، حتى إن بعض الناس -ولا نتنقص من أحد- وقد بلغ في العلم منزلة عظيمة، يمنع الطلبة أن يأتوا إليه، وإذا طرق عليه طالب، قال: ماذا تريد، أي خدمة؟
خدمتنا -يا شيخ- أن تخرج لنا، خدمتنا أن تلقي علينا دروساً وفوائد، وتنهال علينا بالعلم، وأن تكون إماماً تلقي هذه الأمانة التي على كاهليك، أما أن تقطر علينا بالقطارة أو تبقى في البيت حتى يؤتى إليك ويطرق عليك الباب تستفتى، فهذه مسألة ليست بصحيحة، فيخرج حينها العامي يدعو إلى الله عز وجل، ويتكلم في القضايا الكبار حتى إن بعضهم يتكلم في أشراط الساعة وعلم الغيب بجهل، وبعض الناس الجهلة لما تكلموا في الوعظ، ما تركوا سؤالاً حتى أجابوا عليه، بعضهم يسأل هل تدور الأرض؟ قال: الأرض لا تدور، ومن قال: تدور الأرض، فهو كذاب مفترٍ على الله، والدليل على ذلك -اسمع الدليل العقلي والاستنباط-.
يقول: إنني منذ خلقني الله في المدينة التي أنا فيها ما دارت بي، هذا إشراق ولموع، وهذا فتح من الله عز وجل، وبعض الناس يورط نفسه في كل مسألة وينبغي له ألا يتدخل في مثل هذه الأمور ورحم الله امرأً ترك ما لا يعنيه.