قصة في الجرحى في سبيل الله من أعجب القصص، لما حضر المسلمون مع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه معركة اليرموك، كان معهم الحارث بن هشام، أخو أبو لهب، كان من سادات مكة، كان يكسو الكعبة سنة وكفار قريش يكسون الكعبة سنة، قاتل الرسول عليه الصلاة والسلام في الغزوات الكثيرة حتى هجاه حسان بقصيدة يقول فيها:
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشامِ
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرة ولجامِ
فلما أسلم الحارث بن هشام، أخبره بالقصيدة فبكى، وقال: والله لأجلون العار عن نفسي، يقول حسان: لمحبوبته: إن كنت كاذبة، فالله ينجيك مثل ما نجا الحارث بن هشام عنا يوم بدر يوم فر وترك أصحابه سبعين مقتلين، وهو من أفرس الفرسان، لكن غلبه حسان في الشعر، فبكى وقال: والله لأطهرن العار عن نفسي، فلما أتت معركة اليرموك، خرج من مكة، وكان يربي سبعين يتيماً في البيت، وكان من أغنى الأغنياء، وكان لا يشبع حتى يشبع كل من عنده في الدار، فلما خرج بكى اليتامى وتعلقت به الأرامل والمساكين قالوا: أين تذهب يا أبانا، قال: أذهب لأجلّي عني العار لأني أقسمت، فخرج إلى اليرموك، فلما أتى وقت الضائقة ووقت الشدة، لبس أكفانه، وقال للمسلمين: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم خرج، فقاتل قتالاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، فقتل، فأتوا به، فحمله خالد بن الوليد وهو والحارث من أسرة واحدة، فاحتضنه، وقال: يا عماه! قتلت؟ قال: نعم قتلت جلوت العار عني
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشامِ
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرَّة ولجامِ
يا خالد! هل رأيتني تركت الأحبة؟ فبكى خالد، وقال: لا والله ما تركت الأحبة، وإذا عكرمة بن أبي جهل الذي أبوه فرعون هذه الأمة يقول: من يبايعني على الموت؟ لأن الدائرة دارت على المسلمين في تلك الفترة، ولما رأى خالد جيش الروم، أقبل، قال: لا إله إلا الله يا خيل الله اركبي، وتقدم أحد الروم إلى فرس خالد الأشقر فطعنه، فوقع الفرس على وجهه، فإذا خالد على الأرض واقفاً، واعتزى خالد وصاح، فسمع صديقه عكرمة، فقال: من يبايعني على الموت؟ يظن عكرمة أن خالداً قتل، فتقدم عكرمة، فشقوه بالرماح، فحملوه شهيداً في آخر رمق إلى الحارث ووضعه خالد بجانبه، وبعد قليل إذا ابن عكرمة يهادى، وإذا رجل من المسلمين يؤتى به كذلك، قال خالد: ماذا تريدون؟ فالتفت إلى عكرمة وكان في الرمق الأخير وهو يشير إلى الماء يريد ماءً، فأخذ خالد ماءً بارداً من الخيمة وسلمه لـ عكرمة، فرفض عكرمة حتى يشرب الحارث عمه، فسلموها إلى الحارث، فرأى الشاب الصغير، فرفض حتى يشرب الشاب:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:٩] فأعطى الشاب، فرفض حتى يشرب المسلم، فأعطى المسلم، فامتنع، فأعطاه إلى الحارث، فوجده قد مات، فأعاده إلى عكرمة، فوجده قد مات، وإلى الشاب وقد تاقت روحه وخرجت ومات، وإلى المسلم، وقد انتهى، فانسكب الكوب من يد خالد وبكى وقال:
[[زعم الناس أنا لا نموت من ضرب السيوف لا ورب البيت بل قصعاً تحت الرماح]]
اللهم فاسقهم من جنتك، قال تعالى:{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}[الحديد:١٩]
وذكر ابن ماجة رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام قال:{من راح روحة في سبيل الله، كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكاً يوم القيامة} وهذا الحديث إسناده حسن، فيجعل الله مثل وزن هذا الغبار مسكاً.