[تقديم النقل على العقل]
أولاً: من خصائصهم: أنهم يبدءون بالشرع ثم يخضعون العقل له، عملاً بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:١] فلا يقدمون العقل، وإنما يقدمون النقل، فيقفون أمام قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، خجلين راهبين خاشعين ولو قطعت أعناقهم، فهم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، يقفون أمام الكتاب والسنة، ولا ينظرون لقول أحد من الناس كائناً من كان، ومحمد صلى الله عليه وسلم يحتج بقوله ولا يحتج لقوله، وغيره عليه الصلاة والسلام يحتج لقوله ولا يحتج بقوله.
فيرون أنه لو أتت المسألة فيها: قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام انتهى الأمر وليس لهم خيرة، ولا منأى، وليس لهم عذر أن يتركوا: قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام لقول أحد من الناس.
كان عمر وهو من سادات أهل السنة والجماعة يقف أمام الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[كان عمر رضي الله عنه وأرضاه وقافاً عند كتاب الله، إذا تليت عليه الآية لا يتجاوزها، كان جُلَّاسه أهل القرآن كباراً أو صغاراً]] فهؤلاء جلساء عمر:
أعف سهر العيون فكل نوم لغيرك أيها المولى حرام
وأسمعني حديث الوصل سبعاً رضيت لك السرى والناس ناموا
طرق عيينة بن حصن على عمر الباب، وعيينة شيخ القبيلة، لكنه يجهل الدين، وعمر متنور بنور الله، فقلب عمر وكلامه نور وتتلمذ في مدرسة النور:
ولو أنه حسن فريد عذرته ولكنه نور وثانٍ وثالث
طرق الباب عيينة بن حصن -وهو أعرابي لا يفهم الدين- قال عمر: من؟ قال: ائذن لي وافتح الباب! أنا الكريم ابن الكريم ابن الكريم، قال عمر: كذبت، أنت الخسيس ابن الخسيس ابن الخسيس، الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وفتح له الباب، وقال: هيه يا عمر! لا تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فأخذ عمر الدرة؛ ليخرج الشياطين من رأسه، فقال الحر بن قيس وهو غلام قريب لـ عيينة من أبنائه: يا أمير المؤمنين! لا تعجل، فالله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩] وإن هذا من الجاهلين.
فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
كان عمر يُخضع رقبته للحق، خرج يصلي بالناس الجمعة في ثوب واحد -لا يملك من الدنيا إلا ثوباً- ومعه عصا يريد أن يرتقي المنبر؛ ليعلم الأمة الخالدة المفاهيم الخالدة والمبادئ الأصيلة، وفي الطريق سال ميزاب بدم دجاج على ثيابه قبل الخطبة بدقائق، فغضب -وكان رجلاً طوالاً لا يقوم له خصم- فاقتلع الميزاب وأنزله في الأرض، وعاد إلى البيت وغيَّر ثيابه، وصعد المنبر، وخطب الناس، فلما خرج الناس وإذا الميزاب المقلوع ميزاب العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال العباس: [[من قلع الميزاب؟ قال عمر: أنا.
قال: ولم؟ قال: تذبح الدجاج وتسيل دمه على الناس، وهذا تأكيد من عمر لأنه الحاكم، قال العباس: والله الذي لا إله إلا هو! ما ركب ذاك الميزاب في هذا المكان بيده إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فدمعت عينا عمر، وقال: أسألك بالله أهو رسول الله الذي بناه بيده؟ قال: إي والذي نفسي بيده! قال: والذي نفسي بيده! لأبركن لك في الأرض، ولتصعدن من على كتفي بأقدامك، ولتعيدن الميزاب مكانه]].
لله درك! ولله ما أقواك! وما أحسنك! هذا هو الوقوف عند قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، الاحترام المطلق، لا كوقوف العبيد عند السادة، أوامر البشر يوقف لها وتؤخذ بعين الاعتبار والتسليم والاحترام، أما قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام فأصبحت عند كثيرٍ من الناس من المهانة بدرجة حتى إنه لا يعبأ بها.
قال عليه الصلاة والسلام للناس وهو على المنبر: {يا أيها الناس! اجلسوا} وكان ابن رواحة -الذي باع روحه من الله- على الرصيف خارج المسجد، فسمع كلمة: اجلسوا! فجلس في الشمس على الرصيف، قال الناس: مالك يـ ابن رواحة؟ قال: إني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: اجلسوا! فجلست -انتهى الأمر- فهم يدينون -أولاً- بالنقل، ويحترمون قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخشون من هذه الكلمات العجيبة.
وسأل سائل الإمام أحمد وهو في مرض موته عن حديثٍ فقال: أجلسوني! فلا ينبغي أن أُسأل عن حديث وأنا مضطجع.
وكان الإمام مالك يمشي في الطريق، فسألوه عن حديث، فقال: لا أجيب حتى نجلس.
فجلس؛ احتراماً للحديث.