والرسول صلى الله عليه وسلم حج وكان حجه في يوم جمعة، لأن الكفار الجاهليون من كفار قريش خالفوا بين الأشهر، عندهم أربعة أشهر لا يقتلون فيها أحداً، فإذا أرادوا الانتقام من عدو قدموا بعض الأشهر وأخروا بعضها حتى يستحلوا الدماء، فجعلوا صفر مكان محرم، وشوال مكان ذي القعدة، وخالطوا بين الأشهر، وقدموا وأخروا، فقال الله عز وجل:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[التوبة:٣٧].
فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحج، أتى وإذا الأشهر مخلوطة ليست منسقة ولا مرتبة، فترك صلى الله عليه وسلم الحج، وكان يرسل أمراء من قبله صلى الله عليه وسلم يقودون الحجيج، حتى إن آخر حجة حجها أبو بكر قبل حجته صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ذي القعدة، ما أتت في ذي الحجة؛ لأن الأشهر ما ترتبت لهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما لم تترتب له الأشهر ما حج أبداً، فأرسل أبا بكر الصديق فحج بالناس، وكان حجه في ذي القعدة، ولما رتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الأشهر وأعادها، كما يقول صلى الله عليه وسلم يوم عرفة:{إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض} فأدار الله له ذي الحجة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً، فوافق الجمعة اليوم التاسع، وهو واقف بعرفة، فكان حجه موافق لسنة الله عز وجل في الأيام، فنزلت عليه الآية وهو على ناقته بـ عرفة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً}[المائدة:٣] فوقف صلى الله عليه وسلم يقرأ على الناس، فبكى أبو بكر!! فقال الناس: كيف يبكي هذا الشيخ؟! يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: أكملت لكم الدين، وأتممت عليكم النعمة، فيبكي هذا الرجل، فسألوا أبا بكر: ما لك تبكي؟ فقال: أجل الرسول صلى الله عليه وسلم قد دنا.
قال أبو سعيد: فكان أفقهنا وأعلمنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وعاد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ومكث ثمانين ليلة، وقيل ثلاثاً وثمانين أو أربعاً وثمانين، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً}[المائدة:٣].