[نسيان العلم]
الأثر الثالث: نسيان العلم، نقول: ما لنا ننسى، ما لنا نخطئ، مالنا لا نستحضر المعلومات؟!
و
الجواب
يعود السبب إلى أحد أمرين:
الأول: إما أن أصل الجبلة والفطرة مفطورة على هذا، وليس الذكاء حداً بين الناس أو قاسماً مشتركاً للتقوى، لا.
ابن الراوندي هذا الكلب المعثر المجرم فيلسوف محسوب على الإسلام مثل ابن سينا كان يعترض على أمر الله، قال الذهبي عنه: الكلب المعثر ابن الراوندي الذي أتاه الله ذكاءً ولم يؤته الزكاء، كان ذكياً ولم يكن زكياً، قال الذهبي معلقاً -ولله در الذهبي -: فلعن الله الإلحاد بالذكاء، وحي الله البلادة بالتقوى، ابن الراوندي هذا محسوب على الإسلام وأخذ كسرة خبز على نهر دجلة فيأكلها -وكان ابن الراوندي فقيراً- فمر عليه عبد عنده خيول وبغال وبقر وغنم، فقال ابن الراوندي: لمن هذه؟ قالوا: لفلان قال: سبحان الله! -ويلتفت إلى السماء- يعطي العبد فلان الغبي البليد كذا وكذا ويتركني وأنا من أذكياء العالم ثم قال: هذه قسمة ضيزى ورمى بالخبز في النهر.
وهذا إلحاد ولست أتكلم في ترجمة ابن الراوندي ولكن في نسيان العلم، وأن الذكاء لا يتقيد دائماً بالتقوى؛ لأننا نجد بعض الناس من لا يستحضر النصوص أو لا يعرف التخريج وهو من أفضل عباد الله في التقوى والورع، بل كثير من الأجلة في تاريخ الإسلام لا يحفظون أحاديث، وعندهم من التقوى والورع والقرب من الله أمر عجيب.
ولكن السبب الثاني الذي أريد أن أقوله: الكسبي {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:١٣] النسيان {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٢] وبمفهوم المخالفة من لا يتق الله لا يعلمه الله.
والذنب هذا في طلب العلم أمره عجيب، قال ابن الجلاد: نظرت منظراً لا يحل لي، فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام؟! والله لتجدن غبه ولو بعد حين، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة، ذكر ذلك ابن تيمية ولكن ما ذكر اسم ابن الجلاد، وذكر الذهبي اسم ابن الجلاد وابن الجوزي قال: ابن الجلال ولا يهمنا ابن الجلال ولا ابن الجلاد، ولكن يهمنا العبرة من القصة.
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
وكيع وما أدراك ما وكيع! مدرسة مستقلة في الحديث وكيع بن الجراح الرواسي شيخ الإسلام حافظ الدنيا أمير المؤمنين في الرواية كان خاشعاً، قال الإمام أحمد: ما رأيت أخشع من وكيع.
وكان إذا ذكر الله تنهل دموعه على لحيته، وكان من جهابذة السيرة والسنة، أتاه أحد الناس -قيل: الإمام الشافعي وقيل غيره- قال: يا وكيع! يقول الأطباء: إن الزبيب من أحسن شيء للحفظ - الزهري يرى ذلك، وذكره الذهبي وابن كثير، قيل للزهري الإمام المعتبر محمد بن شهاب الزهري: ما هو أحسن شيء في حفظ الحديث؟ قال: أكل الزبيب، وبعضهم يرى البطاطس، وبعضهم يحذر من الباذنجان كما يحذر ابن القيم من الباذنجان يقول: احذروا من الباذنجان فإنه يفسد الذهن، فقلنا: أما نحن سواءً أكلنا باذنجان أم لم نأكل فذاكرتنا ليست بجيدة، فعلى الأقل لا نخسر الباذنجان- على كل حال، فيقال لهذا العالم- وكيع -: ما هو أحسن دواء في الحفظ؟ قال: "ما رأيت والله للحفظ مثل ترك المعاصي".
لله درك:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
قال مالك لـ محمد بن إدريس الشافعي: يا محمد! إني أرى عليك نجابة، وإني أرى لك إمامة في هذا الدين، فإياك والمعاصي فإنها تتلف العلوم، أو كما قال، ولذلك قال سبحانه: {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:١٣] قال ابن تيمية النسيان قد يكون في المعاني وفي الألفاظ بسبب عدم العمل بالعلم، ولذلك قال الله عن بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:٥] الحمار ضع على ظهره فتح الباري ورياض الصالحين وبلوغ المرام لا يتغير ولا يتأثر، والخبث الذي لا يتغير ذكره الله في سورة الأعراف حيث قال عزوجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] قال أهل العلم: الكلب إذا ترك في الشمس مد لسانه ولهث، وتدخله الظل مد لسانه ولهث، أي: أنه لا يتغير سواءً بسواء.
إذاً هذا مثل الخبيث الذي لا يستفيد من العلم، ولا يتقي الله في العلم، ولا يوصله العلم إلى رضوان الله، ولذلك ألف الخطيب البغدادي كتاب اقتضاء العلم العمل، يعني: النتيجة من العلم العمل.
الخليل بن أحمد الفراهيدي كان من أذكياء الناس حتى يقولون: قتله ذكاؤه، كان يفكر في الحساب وقال: لأجعلن حساباً تذهب به الجارية إلى البقال فلا يظلمها، فأخذ يتمتم ويفكر وأغمض عينيه فاصطدم بسارية المسجد، وكان الخطأ منه لا من السارية فمات رحمه الله رحمة واسعة، إنما الشاهد: الخطيب يقول: رؤي الخليل بن أحمد في المنام قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: أرأيتم تلكم العنون والعروض؟ قالوا: نعم.
قال: ذهبت فما نفعني إلا ركعتين كنت أركعهما في السحر، والعروض هي: علم القافية
مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
وليس معنى ذلك أن نزري بعلم العروض لكن أن المقصود من العلم العمل وتقوى الله الواحد الأحد، ولذلك كم روى أبو بكر للناس، وكم روى معاذ للناس، أحاديث قلائل وما تصدروا للرواية، ولكن كانوا قرآناً يمشي على الأرض رضي الله عنهم وأرضاهم، فحذارِ حذارِ.
وأحذر نفسي والمقصرين من أمثالي: أن يجعلوا حواجب المعرفة والحفظ النظرة والنغمة والخطيئة والمعصية والسيئة.