للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[محاسبة العمال]

حق على المسلم الذي يتولى ولاية, وهو رئيس في دائرة, أو في مكان أو مجمع، أن يحاسب من تحت يده من رؤساء المكاتب، ومن المسئولين عن الأقسام والشعب والدوائر؛ ليلقى الله وقد حاسبهم، فإن ترك الأمور هكذا مبثوثة، فهذا معناه: الوهن والفشل والضياع، والرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث حاسب عماله.

أرسله ثم لما أتى اعترضه، وقال: أين المال؟ أين الزكاة؟ فأخبره هذا, ولكنه فصل جزءاً من الزكاة لوحده، وقال: هذا لي، فغضب عليه الصلاة والسلام وأعلن تذمره صلى الله عليه وسلم من هذا التصرف، ثم تكلم عليه الصلاة والسلام بالكلام الذي سمعتم، فيؤخذ منه المحاسبة، وعدم ترك الأمور تذهب هكذا!

ويقاس على ذلك: من كان مسئولاً في كلية، أو مدرسة، أو معهد، أو ثانوية، أو دائرة حكومية، أو مصلحة، أو شركة، أو مؤسسة، أن يتفقد دائماً من تحت يده بالحساب، وبالجلسة، وبالاستقراء من أخبارهم، ومتابعة دوامهم، وحضورهم، وذهابهم، وأدائهم للدروس، وتحضيرهم للمحاضرات والحصص فإن الله سوف يسأله عن رعيته، وعن أساتذته، وعمّن تحت يده، هذا هو أمر الإسلام في هذا.

عمر رضي الله عنه وأرضاه يحاسب عماله، إذا لم يحاسب عمر عماله فمن يحاسب عماله؟!

هو يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الناس، ويحاسب زوجته في البيت وأبناءه، يأتي يوم عرفة في الحج الأكبر، فإذا حميت الشمس واجتمع الناس دعا عماله وصفهم بجانبه من ميمنته وميسرته، والي العراق، ووالي اليمن، ووالي مصر، ووالي الشام، كل الولاة في الأقاليم يجمعهم، ثم ينادي بالحجاج يا أيها الحجاج: هذا والي مصر -مثلاً- عمرو بن العاص تعالوا حاكموه، فيأتي كل أحد يتكلم بين يديه، هذا وهذا، فيحكم بينهم في يوم الحكومة الكبرى، يوم حقوق الإنسان، يوم أداء المظالم، يوم يتجلى الله للناس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

حتى يأتي مصري، فيأتي بابنه، فيقول: مالك؟ قال: ابن هذا -أي: ابن الأمير عمرو - ضرب ابني، قال: ولم؟

قال: ابنه محمد سابق ابني فسبقه ابني على الفرس، فقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ فضربه، فقال عمر لـ عمرو: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟]] متى بدأ هذا البيان عندكم ونحن في الإسلام أعرف بالإسلام؟ فأخذه وأخذ ابنه، وقال للصحابة: [[لا يحول بيني وبينهم أحد فأخذ يضربهم بالدرة]] وعمرو يقول: [[الله الله في نفسي يا أمير المؤمنين]] فأدبهما رضي الله عنه وأرضاه حتى رضي المصري.

يقول حارث بن زياد فلما دخلت نظر إلي عمر وسأل عن أخباري، قال: فسددت والحمد لله -أي: في الكلام- هو مسدد أمام داهية الدنيا، أمام إنسان أعطاه الله من الفطنة والذكاء, فجعله ملهماً تنطق السكينة على لسانه، يقول ابن عمر: [[كنا نتحدث: أن السكينة تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وأرضاه]].

ويقول علي: [[لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر رضي الله عنه]].

ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن يكن أناس محدثون بعدي وملهمون فإنه عمر بن الخطاب}.

فأخذ يسأله، قال: فلما أردت أن أقوم؟ قلت: -قال حارث بن زياد: وليتني تركت هذه الكلمة- عندما نظرت إلى عمر وعليه ثياب ممزقة ومرقعة، وهو يأكل خبز الشعير في ملح وزيت، فقلت: يا أمير المؤمنين! غيرك أولى بهذا، تكون بملبس رضي، ومطعم شهي، ومركب وطي، قال: فدخل؛ فأخذ خشبة؛ فضربني على رأسي، قال: [[ثكلتك أمك، والله إني كنت أظن أنك خير من ذلك، اذهب والله لا تلي لي ولاية]].

هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، العدل والتولية عنده كشرب الماء، كله رضى لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يفعل شيئاً إلا إرضاءً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مسدد.

ولذلك كانوا يتحذرون منه دائماً وأبداً لأنه شديد الرأي، وسخره الله عز وجل في تلك الفترة ليحفظ به الإسلام، وقوة الإسلام وعمقه، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

ومثل هذا علي بن أبي طالب، ثبت في البداية والنهاية من حديثه رضي الله عنه وأرضاه، أنه لما جمع الصدقات في الكوفة، أخذ بيت المال فوزعه، ثم غسله، ثم صلى ركعتين، ثم استقبل القبلة، قال: [[اللهم اعلم واشهد أني ما أخذت لأهلي حبة ولا درهماً ولا ديناراً ولا زبيبةً خوفاً منك]].

ثم يأتي عمر بن عبد العزيز المجدد، فيحاسب عماله، تولى الإمرة، وأول ما أخذ الخلافة أتى بكيس معه، وأتى بـ مزاحم مولاه -هذا مزاحم يأتي ومعه السيف دائماً ومعه مقص- وأتى بكيس، وجلس على المنبر، وناظر الناس جميعاً، والأمراء من بني أمية في الصف الأول، والوزراء والعلماء والناس، يتولى أمر الأمة الإسلامية من سمرقند إلى أسبانيا، ومن تركستان إلى جنوب أفريقيا، فجلس على المنبر، وقال لـ مزاحم: اُخرج عليّ الصك الأول، فخرج فقرأ صكاً للعباس بن الوليد بن عبد الملك، أنه أخذ أرضاً في حمص ليست له ولا لأبيه ولا لأمه، فلما قرأ عليه قصَّه من أوله إلى آخره ورمى به، فقام العباس من هناك، وقال: والله لا تفعل، ولا تستطيع أنت ولا أبوك ولا أمك -يقول لـ عمر بن عبد العزيز - قال: عليَّ برأسه يا مزاحم! أعطني رأسه واترك الجثة، فسل سيفه، قال العباس: لا.

سمعاً وطاعة، فتركه، مادام أن الأمر سيصل إلى هذه الدرجة فلا {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:٦].

يظن الأمر هيناً، يقبل التفاوض، لكن مادام أن هناك سيفاً فلا أستطيع، هذا العباس بن الوليد وقصته عند ابن كثير، وهي أكثر ما أخذت عن عمر بن عبد العزيز حتى نغصوا عليه، وسمموه في أكله، فمات مسموماً، لكن شهيداً إن شاء الله، وترك الدنيا لأهل الدنيا، ولكن سوف يلقى الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>