وما دام أننا تعرضنا للحجاج، فلا بأس أن نعيش مع الحجاج للاستفادة من قصته مع سعيد بن جبير أحد التابعين الأخيار، من الذين لهم أحاديث في هذا الباب، وكان من الناقمين على ظلم الحجاج.
كان مع العلماء في بئر جمان، فهرب من الحجاج وبقي هارباً، قيل: سبع أو ثمان سنوات، فظفر به الحجاج، وأتي به، وأدخل على الحجاج كما في تحفة الأحوذي في المجلد الأول- قال له الحجاج: من أنت؟ قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير، جعل مكان سعيد:(شقي) ومكان جبير: (كسير) قال: أمي التي سمتني أعلم، قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
ثم قال الحجاج: والله لأصلينك في الحياة ناراً تلظى -يقول ذلك لأحد العباد والزهاد والعلماء الكبار- قال سعيد بن جبير: لو أعلم أن ذلك إليك لاتخذتك إلهاً، قال الحجاج: علي بالعود، فأتي بجارية مغنية فضربت العود، فبكى سعيد بن جبير، قال الحجاج: أتبكي من الطرب؟
قال: لا والله.
لكن الجارية خلقت وسخرت لغير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة فسخر لغير ما خلق له، قال: عليّ بالذهب والفضة، فنثروها بين يديه، فقال: سعيد بن جبير: إن كنت جعلت هذا المال لتدرأ به عذاب الله فنعم ما فعلت، وإن كنت أخذته رياء وسمعة فوالله لتحاسبن عنه عند الله يوم القيامة.
فقال الحجاج: خذوه، ووجهوه إلى غير القبلة؛ فقال:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة:١١٥] قال: اطرحوه أرضاً، قال:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[طه:٥٥] قال: لو كنت مظلوماً لانتصرت، قال:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}[إبراهيم:٤٢] فلما أرادوا ذبحه قال: يا قاصم الجبابرة، اقصم الحجاج، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج! يا قاصم الجبابرة اقصم ظهر الحجاج، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي.
فلما ذبح سعيد بن جبير ذكر بعض أهل السير أن رأسه كان يتدهده ويقول:(الله الله) فأتى الحجاج فدخل باب الإمارة وحك يده، فامتلأ جسمه بلاء من دعوة سعيد بن جبير، فوضع نفسه على السرير وأخذ يخور كما يخور الثور شهراً كاملاً، لا يأكل ولا يشرب، وورم جسمه، وخرج منه دمل يحكه فينزل منه قيح وصديد ودم، يقول: والله ما مرَّت بي ليلة إلا رأيت كأني أسبح في الدم.
ويقول: لقد رأيت كأن القيامة قامت، فرأيت عرش الله بارزاً، ورأيت كأن الله حاسبني فقتلني عن كل إنسانٍ قتلةٍ، إلا سعيد بن جبير فقد قتلني به سبعين مرة، وهذا في تراجم سعيد في سيرة الحجاج، هذا على ذكر الحجاج وأمره إلى الله عز وجل، وهو من عصاة الموحدين أمره إلى الله لا نشهد له بجنة ولا نشهد عليه بنار، وقد ذكر في ترجمته: أنه مر على قبره ومعه بعض قرابته وقيل: أخوه، فسمعوه يصيح في القبر -نسأل الله العافية- فقال أحد أقاربه: رحمك الله يا أبا محمد! تقرأ القرآن في الحياة وتقرأ القرآن في القبر.